المقالات الثلاثة الأخيرة تناولت قضية مثيرة للجدل الفقهي والفلسفي على مر العصور الإسلامية.. هي قضية الحياة الحسية لبعض الأنبياء المرسلين، كحياة عيسى وإدريس عليهما السلام في السماء، وحياة الخضر وإلياس على الأرض، أما الحياة المعنوية التي تندرج في باب الغيب كحياة الشهداء، التي ورد ذكرها بصريح الآيات المنزلة في كتاب الله الكريم، فلا تثير أي قدر من الجدل، ولكنها تطرح كماً هائلاً من التساؤلات، حول كنهها وكيفيتها ومدلول صفة الحياة بالنسبة، لهذه النخبة الخيرة التي صدقت فيما عاهدت عليه ربها.. كما في قوله تعالى في سورة البقرة: « وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ »البقرة: 154«وقوله عز من قائل في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا «ومن المعلوم ضرورة أن بذل النفس رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الله، والانتصار لعقيدته، من أجلّ الطاعات التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، وقد أوضحت الآيات الكريمة درجة الشهيد، التي تأتي بعد الأنبياء والصديقين، وتتقدم على درجة الصالحين.. ومن جهة أخرى تقرر الآيات أن الشهداء يتمتعون بحياة ( خاصة ) غير محسوسة (لا نشعر بها) أي أنها فوق إدراكاتنا الحسية.. يقول أحد العلماء المعاصرين في مقاربة هذه الآية: (الذي يتأمل الآية الكريمة ويتدبر عبارة (بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) سيجد فيها إعجازاً رائعاً، لأن مصيرنا الفناء، إلا أجساد الأنبياء كما روي عن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) في سنن أبي داوود والنسائي. كما أن الشهداء تبقى أجسادهم بيننا غضة طرية، لأن أرواحهم تتغذى من ثمار الجنة، وهذا ما يعلل رائحة المسك، ونزفهم للدم، ونمو اللحية، وتعرقهم وبقاء ملابسهم كما هي، مع أن بعض الشهداء قد مضى على استشهادهم سنين وعقود وحتى قرون، وهو يعلل عدم تحلل الخلايا وعدم اقتراب الميكروبات والحشرات والقوارض منها.) ويستطرد الباحث المعاصر فيقدم الرؤية العلمية التي تثبت وجود (ضرب من ضروب الحياة ) في أجساد الشهداء، يمنعها من التحلل والاندثار.. يقول: من المعلوم أن فناء اللحم يكون بين ستة أشهر إلى عام، والعظم بين عشرين إلى خمسين عاماً، ويتحلل الجسد حسب طبيعة الجو المحيط (الرطوبة والحرارة والتعرض للشمس ومكان وطبيعة الموت وطبيعة الجسد) ويورد الرؤية العلمية لأسباب ومراحل التحلل، التي يتبوأ قمة سنامها (انعدام الأوكسجين، وازدياد نسبة ثاني أوكسيد الكربون، والفضلات التي تسمم الخلايا، ثم تبدأ بعض الأنزيمات بتحليل الخلايا من الداخل، بسبب ازدياد نسبة الحموضة، فتفكك الشحوم والبروتينات والسكريات لعناصر أبسط، وهذا التحلل لا يكون ظاهر للعيان في الأيام الأولى، ولكنه يكون كثيفاً في الكبد، بسبب كثافة الأنزيمات، وفي الدماغ بسبب نسبة السوائل الموجودة به، ويتغير لون الدم ويتجمع الدم تحت الجلد، وبسبب ازدياد نسبة الحموضة تتجلط السيتوبلازما، ثم تبدأ مرحلة البلاء أو الاهتراء، حيث تقوم البكتريا اللاهوائية والهوائية والفطور بتحليل الخلايا بعد أن قضت على الدفاعات المتبقية من الكريات البيض وتجعلها تنهار بالكامل وتحولها لغازات وسوائل ومواد أولية، ويتغير لون الدم إلى الأخضر القاتم، والغازات الناتجة عن التحلل هي الميثان وثاني أكسيد الكربون وسلفيد الهيدروجين والأمونيا.) أما أجساد الشهداء فيتوفر فيها الأوكسجين، بما يشي بوجود ( حالة حياة خاصة ).