1944- 1989 وسط حضور رفيع المستوى من أهل الثقافة والفن؛ احتفت مجموعة دال الشهر الماضي بذكرى عبقري الشعر السوداني محمد عبد الحي، وقد احتشد نفر جميل في تلك الأمسية في قاعة أنيقة المعمار دلنا عليها شباب مهذب مؤدب في ترحيب وحسن استقبال، وكان في الحضور أسرة صديقنا الراحل عبد الحي، رفيقة دربه ونجله وكريمته التي عطرت الأمسية بشعره الوطني العميق، وكأني بتلك الليلة قد هبطت علينا من زمان عقد الستينيات أيام كانت للثقافة بهذه البلاد جنان وخمائل وفراديس وصروح ومضارب وخيام. «أود أن أكشف للتاريخ عن موضوع أرقني ردحاً طويلاً من الزمان علّ أسرة عبد الحي تقبله اعتذاراً تأخر كثيراً.. كان الصديق الراحل يؤثرني ويسلمني مخطوطات دواوينه قبل الطبع للمراجعة الأخيرة والتعليق.. ولقد عهد لي بديوانه «رؤيا الملك» فضاع مني في ترحالي بين لندنوالخرطوم مما اضطره لإعادة كتابته من الذاكرة.. اللهم هل بلغت.. بذا أزيح عن صدوري هماً ثقيلاً».. قلت هذا في مداخلتي في تلك الليلة فوجم الحضور.. ووقف الشاعر الكبير القدال مشيداً بحديثي ووصف اعتذاري بأنه «غاية في التحضر والشفافية والنبل». وكانت المفاجأة حديث كريمة عبد الحي التي قبلت الاعتذار باسم الأسرة وقالت لي: «لا عليك فإنني أحفظ عن ظهر قلب كل دواوين أبي وكل ما كتب بما في ذلك ديوان «رؤيا الملك»، فعرفت لحظتها أن العبقرية تتنزل بالجينات من أب لطفل. عرفت عبد الحي أول ما عرفت ونحن بمدرسة حنتوب.. وكان عبد الحي عصرئذٍٍ أجمل عصافيرها المغردة.. كانت حنتوب في زماننا ذاك جنة من جنات الله في الأرض، وقد نعمنا بعملها وأدبها وظلالها الوارفة وأزاهرها وحدائقها الغناء.. ألم يقل حميدة أبو عشر وهو يفارقها: «وداعاً روضتي الغناء وداعاً معبدي القدسي». شكلت حنتوب وجداننا وألهمتنا الشعر وحب الجمال: صلاح أحمد إبراهيم، محمد عبد الحي، النور عثمان أبكر، شيبون، عبد الواحد عبد الله، عمر عبد الماجد، الزين عباس عمارة، شمس الدين حسن خليفة، أبو آمنة حامد، الأمين بلة، محيي الدين الفاتح، عمر محمود خالد.. وهل غادر الشعراء من زهرة من أزاهرها وفراشة من فراشاتها وهدهد من هداهدها إلا وكتبوا الشعر الجميل: «في نصف ليل الروح تنطلق الفراشة من سراديب العقيق في رأسها تاج من الذهب القديم يقودها حلم ببستان الحديقة جلبابها البلور يلمع في الظلام بلا بريق». أسس عبد الحي مع رفاق دربه في الشعر السامق الذكي محمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر: (مدرسة الغابة والصحراء) الشعرية، التي تعد المدرسة الأولى التي سبرت غور الهوية السودانية وأماطت عنها السدول.. ثم مضى عبد الحي وحده في تقصي الذات فكانت العودة إلى سنار: «سأعود اليوم يا سنار حيث الرمز خيط من بريق أسود بين الذرى والسفح والغابة والصحراء والثمر الناضج والجذر القديم لغتي أنت وينبوعي الذي يأوي نجومي وعرق الذهب المبرق في حنجرتي الزرقاء والنار التي فيها تجاسرت على الحب العظيم افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة - (بدوي أنت؟) (لا) - (من بلاد الزنج) (لا) أنا منكم تائه عاد يغني بلسان ويصلي بلسان من بحار نائيات لم تنر في صمتها الأخضر أحلام المواني». ترك عبد الحي الذي رحل على عجل من خلفه إرثاً من الشعر العبقري البديع: العودة إلى سنار -معلقة الإشارات-السمندل يغني-حديقة الورد الأخيرة-زمن العنف-رؤيا الملك، وله ديوان شعر من أوائل دواوينه باسم «أجراس القمر» لا أدري إن كان قد طبع أم لا، وقد تأثر عبد الحي بالأدب الانجليزي الذي درسه بجانب (ليدز) وحصل فيه على درجة الماجستير، ثم استزاد منه ونال درجة الدكتوراة في جامعة أكسفورد وهذا الاثر بين في شعره العامر بتأمل الوجود والكون والطبيعة: «الشجر الميت والحياة في ابتدائها الصامت»، «اللغة المالحة»، «الطيور»، «الثمر الناضج»، «البحار والأنهار»، «عتمة الارض»، «الجذور والانهار»، «النخيل والابنوس»، «البرق والغابة والصحراء»، «النور والظلمة»، «الخريف والشتاء» وهكذا.. وهكذا.. وهكذا.. «ثم لما كوكب الرعب أضاء ارتميت ورأيت ما رأيت مطراً أسود ينثره سماء من نحاس وغمام أحمر شجراً أبيض تفاحاً وتوتاً يثمر حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام». أيرى العبقري الفن بعين قلبه فينذر له العمر القصير.. أيرى ما لا يرى الآخرون في الرحلة العاجلة بين المهد واللحد، وكيف ترى العين وكيف ترى عين القلب وهل يبصر عبد الحي بقلبه إذ يقول: «أسفرتَ فيَّ فإنني مرآةُ وجهك يا جميل وسملتُ عيني كي أراك بعين قلبي يا خليل فأنا الضرير يقودني شوقي إليك ولا دليل». كان في حضور ليلة عبد الحي من أصدقائه الحميمين الشاعر السفير عمر عبد الماجد وزوجته السفيرة زينب محمود والتشكيلي المعروف حسين جمعان وزوجته.. وكان في الحضور الشاعر الكبير القدال والناقد الكبير مجذوب عيدروس، وكان في الحضور غيرهم من الأدباء والشعراء والصحفيين والفنانين والكتاب.. الشكر والإجلال والتقدير لمجموعة دال وعلى رأسها ربانها الشاب المثقف المبتكر أسامة داؤود، الذي يدير مؤسساته الاقتصادية بروح التحضر والإبداع ويفسح فيها مكاناً للثقافة والفن ولأسرة عبد الحي، التي جعلته يسعى بيننا وهو في برزخه البعيد.. يجمع كل ما خلف من إرث أدبي عرفاني، فقد تبعنا عبد الحي مثلما يتبع الشاطئ النهر الدفاق ردحاً من الزمان برغم اتساع البون بيننا وبينه فهو من فلتات الزمان.. غير أننا قد نعمنا بزمانه وألقه وإخائه.. حنتوب.. ثم جامعة الخرطوم ثم الحياة العريضة التي شرّق فيها وغرّب كما يقول، وكمنت له العلة وهو في تسفاره الدائب تنازله وينازلها حتى مضى مثلما يمضي الغمام، أليس هو القائل: «هو الموت يسعى إلينا بلا قدم في الدجى والنهار ولدنا له ناضجين استدرنا له فلماذا البكاء؟ أتبكي الثمار إذا أقبل الصيف يحضنها في الخلايا بنار الدمار؟» الحديث عن عبد الحي لا يحيطه مقال ولا صحائف ولا كتب، غير أن تلك الليلة التي بادرت بها مجموعة دال كانت ليلة للتذكار، بل كانت بضع خطوات جميلة في تتبع درب عبد الحي الذي غاب عنا كما يقول: «حمل العود المرنا وامتطى مهراً جموحاً وتغنى بين غابات النخيل غبت عنا لم تعد عادت عصافير الأصيل غبت عنا أيها الطفل الجميل».