عندما كان المعلم (أستاذاً) والموظف (أفندياً) والطبيب (دكتوراً)، وتُكنى أمهاتهم بوظائفهم تبجيلاً، تغنت البنات للطبيب قائلات: ( الدكاترة كشفو القلب.. ولقو قلبي زايد ضرِب. وها هم دكاترة اليوم - نواب الإخصائيين- يكشفون بالحلقة الثانية في مسلسل إضراباتهم المتواصلة ، كم هو قلب الحكومة ووزارة صحتهم ووزيرتهم يعاني من (التصلب) والقسوة البالغة بإزائهم، بالرغم من بساطة المطالب التي يرفعونها وعدالتها، بل وضرورتها لهم ولمرضاهم!. فيوم الخميس قررت اللجنة الدائمة للأطباء (نواب الاخصائيين) رفع الإضراب الذي استمر ثلاثة أيام، عقدوا خلالها مؤتمراً صحفياً في مقر اعتصامهم وخرجوا في مسيرة صامته طافت بعض أنحاء الخرطوم ومستشفياتها احتجاجاً على أوضاعهم .. قرروا رفع الإضراب ومزاولة أعمالهم، لكنهم هددوا باستئنافه يوم الثلاثاء المقبل إن لم تستجب الوزارة وتصدر قراراً عاجلاً بتحسين شامل لأجورهم وشروط خدمتهم. من تلك القلوب التي كشف «عليها وعنها» إضراب الأطباء، هو قلب الوزيرة تابيتا بطرس، فوجدوه(زايد ضرب .. وحاله السياسي مضطرب).. خصوصاً عندما نقرأ في الأخبار تصريحات نائب الأمين العام للحركة الشعبية ومرشحها لمنصب رئيس الجمهورية الذي يعلن فيه وقوفه إلى جانب الأطباء في معركتهم التي وصفها ب(العادلة) بينما الوزيرة تابيتا- العضو القيادي بالحركة الشعبية- تقف في الصف المقابل والمعارض لمطالب الأطباء، وتهدد كما يهدد وكيل وزارتها باتخاذ الإجراءات العقابية في مواجهة الأطباء لمخالفتهم (لائحة التدريب) بإقدامهم على استخدام (سلاح الإضراب) المشروع لانتزاع حقوقهم. فبدت الوزيرة تابيتا بهذا الموقف، ومواقف أخرى رصدها المتابعون لتحركاتها الإدارية والسياسية والاجتماعية، إنها تغرد خارج سرب الحركة، التي تحض مبادئها وبرامجها على الدفاع عن المهمشين والمظلومين أينما كانوا، جغرافياً أو وظيفياً، والأطباء في آخر هذا الزمان، أصبحوا للمفارقة من (زمرة المهمشين) لماذا تفعل تابيتا هذا، وهي بحكم انتمائها السياسي مدخرة (ليوم كريهة الأطباء)؟!.. الله بالسر عليم!.. لكن ما يمكن ملاحظته إنها ليس أول من سار على هذا الدرب أو حلق خارج السرب ، فقد سبقها آخرون إنتهى بهم المطاف إلى تشكيل أحزابهم الخاصة وترشحوا في الانتخابات الحالية موازين لمركز الحركة الرئيسي. رئيس لجنة النواب الدكتور أحمد الأبوابي قال في مؤتمره الصحفي الأربعاء الماضي: إن الإضراب حقق جملة من المكاسب، من بينها كسر حاجز الخوف وهو قول صادق، فالخوف من الإضراب الذي كاد في أول عهد (الانقاذ) أن يؤدي لقطع الرقاب- د. مأمون محمد حسين مثالاً- قد تم الآن تجاوزه وأصبح الإضراب بحكم اتفاقية السلام والدستور حقاً مشروعاً عندما تعجز المذكرات ووسائل التفاوض المعتادة عن تحقيق المطالب العادلة، وعندما يدير المسؤولون كتوفاً باردة لمستخدميهم (بفتح الدال) ويتمنعون عن الاستجابة ويلجأون للغة التهديد بإنهاء الخدمة والتعاقد، وأوضح الأبوابي أن لجنته -التي تعمل بموازاة (النقابة الرسمية) التي قعدت عن قيادة معركة نواب الاختصاصيين الحقوقية- قادرة على إدارة (إضراب مفتوح)، وحذر من أنه سيشمل كافة الأطباء من اختصاصيين ونواب وأطباء امتياز وعموميين، وأن الاسبوع القادم سيشهد (مفاجأة) لم يسمها أو يحدد أبعادها. مهما يكن من أمر، فإنه لا أحد يرغب في أن يرى الأطباء بمختلف تصنيفاتهم المهنية يلجأون للإضراب عن العمل، فإضراب الطبيب يترتب عليه تأثير مباشر على صحة مواطنين ينتظرون الأيدي الرحيمة لتترفق بهم وتخفف من معاناتهم وآلامهم بعد أن (مسهم الضر) جراء المرض. ولكن في المقابل مهما كانت (إنسانية الطبيب) وعواطفه النبيلة، فإنه لا يمكن مطالبته بالتخلي عن حقه في العيش الكريم ومقابلة احتياجاته الذاتية واحتياجات أسرته الصغيرة الضرورية، ولا يمكن تصور أنه يستطيع أن ينجز ويبدع في مهنته وهو يعاني الأمرين من شغف العيش. فالمشكلة تكمن في أن حكومتنا السنية تخصص رقماً صغيراً ومخجلاً في موازنتها السنوية للشؤون الصحية، مثلما تفعل الشئ ذاته في مجالات حيوية أخرى كالتعليم والزراعة والصناعة، وتدخر الأرقام الكبيرة لشؤون الأمن والدفاع والمصروفات الإدارية والمخصصات الدستورية، وذلك كله يستدعي إعادة نظر وقرارات حاسمة حتى يستقيم الأمر ويعم العدل الذي هو (أساس الملك).