حال الحكومة مع دارفور(يحنن الكافر)، فهي كما عبر أحد المراقبين للشأن الدارفوري(الأكثر قوة وأقل حيلة)، في الوقت ذاته، فهي قد جربت القوة في أشد مظاهرها عنفاً، وكانت النتيجة وبالاً عليها وعلى دارفور والسودان كله، وهي جربت الذهاب إلى السلام من بوابة انجمينا أولاً، وأبوجا ثانياً، وانتهت إلى اتفاقية شبهتها بقطار السلام الذي انطلق، ومن شاء فليلتحق به في الطريق عند أية محطة أو (سندة)يقف أو(يهدِّن) فيها، لكنها اكتشفت أن الراكب الرئيسي(ميني أركو ميناوي)لم يجد في صحبته إلا قلائل، وأنه هو نفسه بدأ يتبرم ويشعر بالملل، فأوقفت القطار وبدأت تبحث عن ركاب جدد، وإذا بالركاب الجدد يطلبون(قطارات جديدة)،فلم تمانع وفتحت باب التفاوض من جديد، واختارت (الدوحة) باتفاق إقليمي عربي- أفريقي، ودعم أممي مقراً للمفاوضات الجديدة، فجلست مع الذين هاجموا العاصمة القومية واندحروا ووقعت معهم اتفاق(حسن النوايا)، الذي تعثر في التنفيذ على مدى عام كامل، حتى أزف موعد الانتخابات، فدخلت معهم في جولة جديدة، انتهت قبل ثلاثة أسابيع إلى توقيع الاتفاق الإطاري بدعم من تشاد، والرئيس إدريس ديبي شخصياً الذي رعى إبرام الاتفاق بين رئيس حركة العدل والمساواة د. خليل إبراهيم، والمستشار الرئاسي د. غازي صلاح الدين، قبل أن تحمل وثيقة الاتفاق إلى الدوحة للتوقيع النهائي هناك. في الأثناء كان الوسطاء القطريون والدوليون يجهدون على مدى شهور للملمة شعث الحركات المتشرذمة من أجل دمجها، أو توحيد مواقفها التفاوضية، واستطاعوا أخيراً أن يجمعوا أكبر قدر ممكن منها على صعيد واحد- بعضهم كان ينتمي إلى حركة التحرير، وبعضهم كان منشقاً عن حركة العدل والمساواة- وانتهى الأمر إلى تشكيل حركة جديدة أخذت اسمها من الفصيلين (حركة التحرير والعدالة)وأبرمت معها إتفاقاً وقع أمس الأول الخميس، وهو الاتفاق الذي أعتبرته حركة العدل والمساواة(مسرحية)، أشرفت على إخراجها ودبلجتها الحكومة، كما أعلن الناطق باسم الحركة (أحمد حسين) من القاهرة.. ولم تكتف حركة العدل والمساواة بشجب الاتفاق الجديد، لكنها دخلت (بتقلها) في سباق (اللملمة) فأعلنت قبل يوم واحد من توقيع اتفاق الخميس عن توقيع اتفاق وحدة اندماجية مع مجموعة أخرى تضم أربعة فصائل، وتطلق على نفسها اسم(خارطة الطريق) من أجل توحيد المواقف في كافة المجالات، و(إحداث آلية مشتركة لتحقيق الوحدة والتنسيق المحكم) أو كما قالت. وبرغم أن حركة العدل والمساواة شجبت الاتفاق الجديد وقللت من أهميته ووصفته ب (المسرحية السيئة الإخراج) إلا إنها لم تصل حد إلغاء اتفاقها الإطاري مع الحكومة، أو حتى التهديد بالغائه، لأن الحركة، وإلى شعار آخر (ممسوكة من إيدها البتوجعه)، نفس تلك اليد التي كانت مصدر قوتها وقدرتها على البطش- اليد التشادية- فالحركة كانت تعتمد اعتماداً كاملاً تقريباً على انجمينا، والحكومة التشادية التي تقدم لها كل ما تريده من إيواء ودعم لوجستي وتسليحي، وكانت تخوض حربها مع الخرطوم عبر جيش العدل والمساواة، الذي بلغت به الجرأة تهديد مقر الحكم في الخرطوم بغزو أم درمان الشهير في مايو 2008م. أما الآن، وبعد الاتفاق بين الخرطوم وأنجمينا، فإن حركة العدل والمساواة قد فقدت السند الرئيسي والحائط الذي يحمي ظهرها في أية مواجهة عسكرية مع الحكومة، كما أنها لا تستطيع إغضاب تشاد ورئيسها الذي رعى الاتفاق الإطاري، وطار إلى الدوحة ليكون أحد شهود توقيعه. أنصب احتجاج العدل والمساواة الرئيسي على أن(حركة التحرير والعدالة) ليست حركة مقاتلة، وسخر الناطق باسمها أحمد حسين من توقيع الحكومة معها اتفاقاً لوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة شهور، إلى جانب الاتفاق الإطاري،وقال إن هذه المجموعة لا تملك نيراناً ولا مقاتلين حتى يوقف إطلاق النار معها، ولا أدري مدى دقة توصيف السيد أحمد حسين لواقع الحال الميداني لهؤلاء الذين اندرجوا تحت مسمى(حركة التحرير والعدالة)،ولكن في كل الأحوال فإن الاتفاق على وقف إطلاق النار أو الحرب في النهاية هو (قرار سياسي) يجب الترحيب به في كل الأحوال، فحروب العصابات يمكن أن تبدأ بخلية مسلحة واحدة أو خليتين تضم ثلاثة أو سبعة أفراد، لتشعل من بعد النيران في السهل والغابات والجبال، خصوصاً في منطقة كدارفور تعاني التشرذم القبلي والنزاعات المستديمة حول الموارد، كانت ولازالت مسرحاً لحرب أهلية مدمرة. الحكومة تبحث الآن عن مخرج، أي مخرج ، من دوامة الأزمة الدارفورية، وهي بعد أن يئست من مردود نهج تشتيت الحركات وشرذمتها عبر الاتفاقات الجانبية والانفرادية، بدأت تبحث عن ما يوحد هذه الحركات ويريحها من صداع المفاوضات، فهي قد اكتشفت بتجربتها أن الذين يتم الاتفاق معهم يأخذون المال ليستغلونه في تعزيز مواقفهم العسكرية ليعودوا للحرب من جديد، وفي بحثها هذا وجدت أن الولاياتالمتحدةالأمريكية في عهد الإدارة الجديدة ومبعوثها سيكون غرايشن لا تمانع في دعم مساعيها من أجل السلام، أملاً في أن يتصرف السودان لمصلحتها دون الدخول في حرج مع حلفائها الأوربيين.. أما أهل دارفور فقد انهكتهم الحرب ولا يرغبون في رؤية المزيد منها، كما أن الوسطاء أنفسهم لابد أن يكون قد أصابهم هم الآخرين الملل، ومع ذلك تبقى الصورة غائمة، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات والمطالبات المتصاعدة بتأجيلها من أجل دارفور، وهي مطالبات لم تجد أذناً صاغية لدى الحكومة، ما يعني أن الانتخابات ستجري في دارفور (بمن حضر) على الأقل في العواصم والمدن الكبيرة وبعض المناطق الآمنة- لكن في كل الأحوال فإن الوضع في دارفور وفي السودان عموماً سيشهد تبدلات ومفاجآت كبيرة فور (أن تضع الانتخابات أوزارها) وربنا يجيب العواقب سليمة!.