كان الشيخ محمد سيد وكان وكان.. السجل حافل، والفقد أليم، والمنبر الصادح بحضوره الطاغى أضحى صامتاً فجأة، يخرصه الحزن على مشهد القوم، وقد تنادوا صبيحة يوم الأحد الماضى يتسابقون كعهدهم، لا ليصلوا خلف من أحبوا، ولكن ليصلوا على جثمانه الطاهر بذكر الله، ولاحول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. إن أول ما كان يميزه هو(الحضور) لذلك شق غيابه، الحضور هنا بمعنى السيطرة على حواس مشاهديه وسامعيه، ومن تنادوا شوقاً لمحاضراته التى طابعها أنها (بلا حدود)، تنداح سلسة حفية بين الأصل والعصر، هذا الحضور هو ما أفجع القلوب، لم يكن يخاطب الأذهان والضمائر فحسب، كان يجذب القلوب مكمن الإيمان، فتجلت فيه أعظم خصائص الداعي الى الله (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك). لقد شيعت البلاد فى موكب مهيب، كما تناقلت الفضائيات وصحف الخرطوم، فضيلة الشيخ والداعية محمد سيد حاج، الذى انتقل الى جوار ربه فى حادث مرور، وهو فى طريقه إلى رحلة أخرى يدعو الى الله على بصيرة.. فانطوت صفحة مشرقة حافلة لداعية شاب، انجبته هذه البلاد، فاخلص النية عملاً لله تعالى، ونشراً للمعرفة بسنة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، مقدماً المثال والانموذج فى حسن الإتباع والإقتداء، وأعطى من الأثر الباقى والنافع والخالد ما دل على طول العمر وبركته، وإن قصرت الأيام وطاب له الرحيل الى من يجزى خير الجزاء. كأنما كان على عجل من أمره، ليدرك ما أعدَّ الله للأوابين الساعين بين الناس بالمعروف، الناهين عن المنكر، أنجز الكثير الذى يبقى من بعده دليلاً على حياة من بعد حياة(الناس موتى، وأهل العلم أحياء) . كان أنموذجا لداعية أحب الناس وأحبوه، وهذا ما نشهد له به مع الآلاف التى خفت لوداعه، فقد كان أدرك سر الوصول الى قلوبهم، مدخلاً الى أذهانهم، ومواضع الإيمان فى صدورهم، إن الحزن قد طغى على رحيل من أحببنا، وفقدناه فجأة ، لكنه كان بنا أشفق، فقد تركنا نتأسى بذكرى إنسان أعطى وأسمع، وذكرالله وأحيا السنة، وترك ما يبقى شاهداً على حضوره بين الناس، وإن ابتعد بجسده ،عليه رحمة الله . لكم أحزننى نبأ رحيله وهو حاضر بكثافة فى نظرى وبين جوانحى، على مدى خمسة عشر عاماً هى فترة تعاونه مع التلفزيون، وكانت بكل ألقها مدار حديثنا قبيل رحيله، ففى عام 1995 والتلفزيون يصبح بثه عالمياً لأول مرة، بدأ حملة استقطاب واسع لأهل العلم، والثقافة، والإبداع، لتصميم خطابه العالمى، فكانت منهم كوكبة من العلماء يتميزون بالحضور الإعلامى، وحسن الخطاب منهم الشيخ الشاب محمد سيد حاج . عرفته فى هذه الفترة بحكم موقعي كمدير للبرامج الثقافية، وتوطدت علاقتى الشخصية به من خلال العمل بالبرامج، وكثافة حضوره الشخصي علماً وسلوكاً ومعاملة وتلطفاً وتبسماً وبشاشة لا حدود لها. حفظت البلاد له إرثاً دعوياً ثقافياً اجتماعياً إنسانياً وافراً، أسس له بالحكمة والقوة فى الحق وعلى منهج (الموعظة الحسنة)، وأشواق( وحدة الصف الإسلامى)، وذلك من خلال تعاونه مع كل الجماعات والمؤسسات، ومنها التلفزيون كوسيط إعلامى بالغ التأثير، لا سيما فى مجال نشر الدعوة، وتعظيم الشعائر، وحسن المعاملة، كأصل من أصول الدين، كان حرصه بالغاً على تلبية الدعوات المتكررة له، للمشاركة فى مختلف البرامج، لما له من علم ومن حضور إعلامى، ومؤشرات القبول عند الناس.. وكانت مشاركاته تتنوع بتنوع البرامج التى شارك فيها منذ عام 1995، حيث هو فى صدارة المشاركين فى البرامج الدعوية، وأحياناً يومياً كما حدث فى رمضان قبل الماضى، وهذا يدل على تواصله الحميم مع الوسائط الإعلامية دون انقطاع. شهد الناس طلته الأليفة لأول مرة قى برنامج ( دوحة الايمان) و(المنتدى الفقهى)، وبصورة راتبة مع تنوع القضايا الفقهية التى تثير الجدل، ومن بعد تألقت مشاركاته فى برامج الحوارات المباشرة مع الجمهور، مثل برنامج(ديوان الإفتاء)، وبرنامج (وجه النهار)، فضلاً عن برامج المناسبات، كالهجرة، ومولد المصطفى، والحج والعمرة، وشهر رمضان المبارك. ليس فى الأمر صدفة ولا مجاملة، وإنما هناك سعة فى العلم، التجرد، الوسطية، تناول كل المذاهب، القدرة على الإستيعاب، والتمكن من الفتوى، ثم سيرته الذاتية، وقد كشفت عنها الأحداث برحيله المفاجىء، فذاعت عبر الصحف وشبكة الانترنت، تقول عنه صحيفة سودانية بعد ساعات من رحيله: (إنه أفنى زهرة شبابه في نشاط محموم، لتعليم الناس أمور دينهم بالمساجد والساحات، والأحياء وكافة الوسائط)، هذا ما قالته (أخبار اليوم)، لتصف أسلوبه بأنه فريد، يمزج فيه وببراعة بين شؤون الدين والدنيا، وماكان ينسى حتى أهمية الدعابة، والمزحة اللطيفة، لإيصال رسائله الإسلامية القيمة، متبعاً أسلوب التبشير لا التنفير، وهذا ما عرفناه عنه نحن أيضاً إذ يتمتع بشعبية واسعة، كماعبرت الجموع الغفيرة التى هبت تودعه وتشهد له أنه مجموعة قيم وسلوكيات كانت تمشي بين الناس، ليجدوا العزاء فيه أنه خلد إرثاً من العلم والتناصح، يفوق سنوات عمره القصير. له رساله ماجستير بعنوان:(انفرادات ابن تيمية الفقهية عن الأئمه الأربعة). وكان قد بدأ مبكراً مخاطبة الناس بمسجد قريته جهة حلفاالجديدة، التى ولد فيها عام 1972 .. وفي المرحلة الثانويه أقام منبراً للنقاش مع الطلاب، يطرح فيها قضايا الدعوة ويرد على الشبهات.. أما مؤلفاته فالمجال يضيق لذكرها، ومنها ما يدل على تنوع إهتماماته الدعوية مثل (الحسبة مسؤولية الجميع)، (لماذا لا ألتزم)؟، و(الحروب الصليبية بين الأمس واليوم).. عرفته عليه رحمة الله يألف ويؤلف، متفرغاً للدعوة لله ، يجوب البلاد، لا يشغله عنها شاغل من شواغل الدنيا، يأسرك بأسلوبه المحبب حين تلقاه، وحين تسمعه، فلا تملك إلا أن تستجيب لدعوته التى هى لله، ولإصلاح شأن العباد بل إسعادهم، لما له من إحتكاك بالناس كافة، وصلات فاعلة بأهل القرار أساسها مناصرة الحق.. اللهم بجاه نبيك الكريم وابتهالات تلك الجموع الغفيرة، التى خرجت تشيعه وتشهد له، أكرمه واجعل الجنة مثواه، وعوض أهل القبلة وأهل السودان بأمثاله أرتالاً وأرتالاً، فما أحوجهم لأمثاله، وما احوجنى لمثل علمه وصفائه ومحبته فى الله. (إنا لله وإنا اليه راجعون)