مساء الجمعة الماضي عبر إلى غزة من بوابة رفح وفدٌ أمريكي مشكّل من سياسيين وأكاديميين يعملون في إطار «مجلس المصلحة الأمريكية»، وانخرط على الفور في اجتماعات وحوار معمق مع رئيس الحكومة «المنتخبة/المُقالة» إسماعيل هنية ومعاونيه، ليخرج الدكتور أحمد يوسف وكيل وزارة الخارجية وأحد أبرز مستشاري هنية في اليوم التالي ويعلن من خلال مؤتمر صحفي بحسب وكالة الشرق الأوسط المصرية: «إن اللقاء ركز على الدعوة إلى حوار متبادل مع الإدارة الأمريكية والشعب الأمريكي، وضرورة رفع «الفيتو» عن المصالحة الفلسطينية من أجل تحقيقها»، مضيفاً أن الوفد اقترح العديد من وجهات النظر في قضيتي المصالحة الفلسطينية والتسوية السلمية مع الاحتلال، وأوضح أن هنية وجّه دعوة بضرورة فتح علاقات مباشرة معها- أي مع أمريكا- من أجل العمل على نقل الصورة الحقيقية عن الشعب الفلسطيني. وعبّر عن آماله بأن تعمل الإدارة الأمريكية على فك الحصار المفروض على غزة، وحمَّل هنية الوفد عدة رسائل تعبر عن سعي الشعب الفلسطيني من أجل خلق فرص السلام والأمن في المنطقة. إلى هنا، يبدو من سياق الخبر، أن كل شئ عادي، ولم يخرج الأمر من إطار مساعي حماس الدبلوماسية لفك العزلة عنها ورفع الحصار عن قطاع غزة الذي تحكمه، وتسهيل جهود المصالحة بينها وبين حركة فتح والسلطة الفلسطينية التي تحكم الضفة الغربية، إلا أن الخبر لن ينتهي قبل أن يدخل بطريقة لا تخلو من محاذرة «في الغريق» عندما يضيف أحمد يوسف قوله «إن رئيس الحكومة أكد للوفد عدم وجود معارضة لفكرة الدولة الفلسطينية على حدود ما قبل الخامس من يونيو 1967م وعاصمتها القدس الشريف، من أجل تحقيق الأمن للشعب الفلسطيني وعودة اللاجئين وتعويضهم عن معاناتهم وإطلاق جميع الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي». دعوة حماس وسلطة القطاع لإقامة «علاقات مباشرة» مع الولاياتالمتحدة عادت بذاكرتي لسنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي عندما كنت محرراً مختصاً بالشؤون الفلسطينية في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية ، ففي ذلك الوقت، وبعد سنوات من الكفاح المسلح الذي خاضته فتح والفصائل الفلسطينية المنضوية تحت منظمة التحرير الفلسطينية، نشأ تيار سياسي في داخل فتح، يتزعمه الراحل خالد الحسن «أبو السعيد» والرئيس الحالي محمود عباس «أبو مازن» ويسانده الزعيم الراحل ياسر عرفات وآخرون، يدعو إلى ضرورة فتح «حوار مباشر» مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ورأى ذلك التيار أن العمل على «الجبهة الدبلوماسية» والتحرك السياسي ضروري لتحقيق مكاسب للشعب الفلسطيني تجني ثمار الكفاح المسلح، وتفك العزلة الدولية عن منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت مصنفة «كمنظمة إرهابية»- كحال حماس اليوم- بمقاييس ذلك الزمان، ومضى هذا التيار في جهوده التي لم تقتصر على الولاياتالمتحدة، حتى تم الاعتراف الدولي من خلال الأممالمتحدة بالمنظمة وزار رئيسها عرفاتنيويورك وخاطب الجمعية العامة بمقولته الشهيرة «جئتكم رافعاً غصن الزيتون والبندقية باليد الأخرى». لكن ذلك «الحوار المباشر» مع الولاياتالمتحدة والاعتراف الدولي من قبل الأممالمتحدة، رفع الحصار عن فتح وعن منظمة التحرير ، وفتح الطريق إلى المساومات دون أن يتمكن إلى اليوم، وبعد مضى عشرات السنين من تحقيق الحد الأدنى من الطموحات الفلسطينية المتمثلة في إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الخامس من يونيو «حزيران» مما أضطر عرفات وأضطر المنظمة إلى اللجوء إلى المفاوضات السرية بعيداً عن عيون المقاتلين الفلسطينية في «فتح» وفي الفصائل الأخرى حتى تم إنجاز «اتفاقية أوسلو» التي لم تُعِد الأرض ولم تحرر القدس ولم تحقق شيئاً يذكر حتى بمقاييس الاتفاقية نفسها غير إقامة سلطة منقوصة السيادة، لكنها في المقابل حققت لإسرائيل أهم مطلوباتها، وهي تكبيل المقاومة والكفاح المسلح وإطلاق يد الاستيطان ونهب الأرض وإقامة الجدار العازل في الضفة الغربية بعد عزلها عن غزة وضرب نطاق الحصار حولها وتعميق العداء بين الفصائل الفلسطينية، خصوصاً بين فتح وحماس التي نراها اليوم تبحث عن «المصالحة الفلسطينية» عبر «الحوار المباشر» مع الولاياتالمتحدة ووفدها الزائر من بوابة رفح. لكن المفارقة تكمن في أن هذه الخطوة لم تجد الترحيب من جانب السلطة الفلسطينية، فقد شاهدت الدكتور محمود الهباش وزير الأوقاف في السلطة الفلسطينية وهو يحاور عبر إحدى الفضائيات مسوؤلاً في حماس منتقداً دعوة حماس وهنية بضرورة فتح « علاقات مباشرة» مع الإدارة الأمريكية ويصفها بأنها ليست في مصلحة الشعب الفلسطيني، فتذكرت قول الشاعر «حرامٌ على بلابله الدوح حلالٌ للطير من كل جنس». غير أن خطوة حماس لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة في محاولة خطب ود واشنطن، فقد سبق للدكتور أحمد يوسف نفسه أن وجّه رسالة إلى وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس في التاسع من ديسمبر 2007م عبّر فيها عن استعداد الحركة للحوار مع الولاياتالمتحدة وأوربا، وقال إن «أي خطوة إيجابية نحو إيجاد حل للصراع لن تكون مجدية طالما أن الحكومة الشرعية المنتخبة في فلسطين يتم تجاهلها من قبل إدارتكم. وإن تجاهلكم لحماس يشكّل إضراراً بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة ويؤدي إلى تعميق مشاعر العداء لكم في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.» ووفقاً للكاتب الفلسطيني المعروف حسن عصفور، فإن واشنطن قد عقدت«جلسات عمل» مع وفد حمساوي بقيادة د. محمود الزهار في جنيف منذ يونيو الماضي، كذلك توالت الاتصالات في دمشق وبيروت وأحياناً قطاع غزة، الذي زاره السيناتور جون كلي في أعقاب العدوان الأخير على القطاع، لكن كل هذه الاتصالات والمعلومات المستخلصة منها تذهب في نهاية الأمر إلى حيث «مطبخ صناعة القرار والتقييم» في الدوائر الأمريكية. ويرى عصفور أن «الاتصالات» بذاتها ليست تهمة في ظل ما هو سائد عربياً وفلسطينياً، وهو البحث عن «الرضا الأمريكي»، وأنها لا تخرج بالنسبة لحماس عن كونها تمثّل عمقاً للإخوان المسلمين في فلسطين، وأن ما يجري لن يخرج عن سياق ما تريده واشنطن من «ترتيبات إقليمية» ودور ل«الإسلام السياسي العربي» فيها، خاصة وأن قطر وتركيا تلعبان الدور الرئيسي في إعادة الترتيب هذه ، في محاولة لاعادة تجميل «موقف الإخوان» بما لا يتصادم مع المشروع الأمريكي العام والبحث عن قنوات تعاون سالكة كما هو الحال في تركيا. وبرغم رجاحة رؤية عصفور وشموليتها، فإن انفتاح حماس على الولاياتالمتحدة، يجب قراءته في ضوء الواقع والتجربة الفلسطينية وخصوصيتها في هذه العلاقة الغامضة. فالفلسطينيون قد جربوا ذلك الانفتاح- كما أسلفنا- في عهد عرفات، حقق لهم اعترافاً وحرية حركة أكبر على المستوى السياسي والدبلوماسي، ولكن ذلك كان خصماً على حريتهم في العمل المقاوم ومطلوبات التحرير في مواجهة عدوٍ لا يرحم، فكانت الكارثة التي إنتهت إلى حصار عرفات حد الموت والفناء. فسياسية الولاياتالمتحدة ظلت في كل العهود والإدارات المختلفة هي «التحالف الاستراتيجي» مع إسرائيل، وبالشروط الإسرائيلية، بحيث تجد الولاياتالمتحدة وفق هذه العلاقة الغريبة وبرغم كل قوتها وأذرعها الممدودة عبر العالم محاصرة ومحكومة بالإرادة الإسرئيلية، وهذا ما حدث أخيراً عندما تراجعت إدارة أوباما عن وعودها بوقف الاستيطان بعد أن أعلنت تلك الوعود على لسان رئيسها ولسان وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون.. ففي الحالة الفلسطينية ليس هناك إمكانية «لترتيبات إقليمية» تعطي دوراً للإسلام السياسي كما هو الحال مع تركيا، وأي محاولة في هذا الصدد ستكون من قبيل «اللعب بالبيض والحجر» ونتيجتها معلومة فلابد أن تأتي اللحظة التي «يطقش» فيها الحجر البيضة فتنكسر وتتحطم، مهما كانت مهارة اللاعبين!.