منذ وجد الإنسان في مجتمع بشري وجدت فكرة اللجوء، أي هروبه من مجتمعه إلى مجتمع آخر أو مكان في نفس المجتمع، حيث يجد ما يفقده من أمن وحرية وسعة. وقد أصبح اللجوء ظاهرة في العلاقات الدولية المعاصرة، حيث بلغ ضحايا الظروف الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها، ما يقدر بالملايين من البشر، وما يحدث الآن بجمهورية البوسنة والهرسك وغيرها لهو دليل على ذلك، بل أصبحت هذه الظاهرة مأساة تقتضي تكاليف جهود المجتمع الدولي كله لمواجهتها بالإجراءات التشريعية أو المساهمات المالية وغيرها، ومما ساهم في إبراز هذه المشكلة، ترابط العالم في الزمان والمكان وإحساس شعوبه بالتكافل واحترام حرياته الأساسية. من هو اللاجيء؟ إن تعريف اللاجيء في القانون الدولي يتضمن الاضطرار لمغادرة الوطن الأصلي بسبب آراء اللاجيء السياسية أو الدينية أو جنسه أو لونه، ويشترط ألا يكون اللاجيء مجرماً «مجرم حرب»، وألا يكون متهماً في جرائم ضد السلام العالمي أو جرائم جنائية مثل القتل. اللجوء كقيمة إسلامية وعربية وقانونية ودولية: إن احترام حقوق الإنسان كإنسان، وكذا حرياته الأساسية والتي من بينها حقه في اللجوء، لا يتجزأ من القيم الإسلامية والعربية، فقبل الإسلام وبالذات في الجزيرة العربية، قد عرف العرب «الملجأ» وكانوا يسمونه «الدخالة» أو «النجدة»، وكانت القبائل تبالغ في إكرام اللاجيء، بل كان القاتل المطارد يمكن أن يلجأ إلى القبيلة التي تطارده، وهذا يعفيه من دم القتيل ويطلق عليه «الطنيبي»، ثم جاء الإسلام الحنيف فاحترمت أحكامه «الملجأ» وأقرت منحه للمسلم وغير المسلم على السواء، بل إن القرآن الكريم جعل الملجأ حقاً للاجيء وفرضاً على الدولة الإسلامية حتى ولو كان اللاجيء مشركاً لقوله تعالى: «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون» «سورة التوبة - آية «6»»، غير أنه كان يجوز الإتفاق على رد الفارين خدمة للعلاقات بين الجانبين، وهو ما تضمنته بعض إتفاقات الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم مع مشركي مكة. ويمكن أن نعتبر الهجرة من مكة إلى الحبشة، ومن مكة إلى المدينة صورة من صور الملجأ الإقليمي، حيث كانت السيادة في مكة لأشرافها وكبار مشركيها الذين اضطهدوا المسلمين وألجأوهم للهجرة مرتين إلى أقاليم أخرى. ولا يغير من قيمة هذا الإستنتاج أن هجرة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينةالمنورة كانت بتوجيه من الله تعالى. أنواع اللجوء: 1. اللجوء الدبلوماسي: إن اللجوء الدبلوماسي أمر متوافر في الحياة الدولية، إذ فر آلاف اللاجئين إلى البعثات الدبلوماسية، ولم تتضمن إتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961م أي حكم بإباحة أو تحريم الملجأ الدبلوماسي، اكتفت المادة «41» بالإشارة إلى احترام قوانين البلد المضيف، وكانت لجنة القانون الدولي قد أوصت في تقريرها إلى الجمعية العامة 1956م بعدم الترخيص للبعثات بأن تأوي كمبدأ عام، أشخاصاً مطاردين لارتكابهم جرائم سياسية، وأن يحظر تماماً على هذه البعثات إيواء المجرمين العاديين، وبذلك خرقت الأحكام الخاصة بهذه المسألة من مشروع الإتفاقية، ولا شك أن اللجنة قد استهدفت صيانة البعثات الدبلوماسية مما قد يصيبها من مشاكل إباحة اللجوء فيها حرصاً على الوضع الحساس للبعثات ووظائفها. اللجوء الإقليمي: يمكن اعتبار صور اللجوء إلى المعابد والكنائس والسفارات وما شابه ذلك، بمثابة لجوء داخلي يتم داخل إقليم الدولة ذاتها، ولكن ظهرت صورة أخرى للجوء أهم وأعم وأشمل، هي اللجوء الإقليمي أو الخارجي سواء باللجوء إلى إقليم الدولة المطلوب اللجوء اليها أو سفنها أو طائراتها التي لا يعتبر اللجوء اليها على إطلاقه لجوءاً دبلوماسياً، وعلى أية حال لا تشجع الدول الملجأ الدبلوماسي إلا بشروط صارمة، وبشكل مؤقت ولاعتبارات إنسانية، لأن هذا الملجأ يعد قيداً على سيادتها، ومعطلاً لسلطانها الإقليمي، ولذلك تهتم الدول فقط بوضع قواعد لتنظيم الملجأ الإقليمي، وحتى هذا النوع لم يتفق حتى الآن على قواعده لتنظيمه بصورة واضحة ومحددة وشاملة لاتصاله بسيادة الدول على إقليمها. ظاهرة اللجوء السياسي: كان اللجوء السياسي ولا يزال ظاهرة سياسية بالغة التعقيد، كثيراً ما تأثرت بالتوترات بين الدول، بل كانت في كثير من الأحيان أداة سياسية في الصراع الدولي، فقد رأينا شيوع هذه الظاهرة إبان اشتداد الحرب الباردة حين كانت الدول الغربية تشجع المنشقين الشيوعيين وتأويهم لأسباب سياسية وإن تذرعت بأن دوافعها هو إنقاذهم من الكبت والدكتاتورية في بلادهم.أما الآن وقد زال الخطر الشيوعي بانهيار وتفكك معظم معاقله وتنصلهم من الشيوعية، وانتهاء الحرب الباردة تقريباً، ستتحول عوامل اللجوء السياسي إلى أسباب أخرى تتأثر باعتبارات أخرى متعددة ومتنوعة في العالم الجديد. ونود أن نشير هنا إلى أن الاعتبارات السياسية الغالبة، المحيطة بمظاهر اللجوء السياسي، هي التي جعلت من الصعب تقديم تحديد موضوعي للاجيء السياسي سوى أنه ذلك الشخص الذي يزعم ذلك وتعتبره دولة الملجأ كذلك، كما أدت ذات الاعتبارات السياسية إلى فشل كافة الجهود الرامية الى وضع قواعد دولية لتنظيم اللجوء السياسي، ويكفي أنه يصعب التوصل إلى موقف منسجم ومتواتر وواضح داخل الدولة الواحدة تجاه مسألة اللجوء، كما أن الاختلاف متباين بين تقليد مناطق العالم الجغرافية والسياسية، ناهيك عن الاختلاف الشديد في الأعراف وما شابه ذلك، بل إن معظم الدول النامية تعامل كل حالة على حدة، وليس لديها سياسة محددة تحكم اللجوء السياسي.ولذلك يجد الباحث القانوني صعوبة في تحديد ملامح ظاهرة اللجوء السياسي من الناحية القانونية، فضلاً عن صعوبة قياس تطويرها، أهو إلى الأمام أم إلى الوراء، كما يحدث الآن في ألمانياالغربية من اعتداءات النازيين الجدد على اللاجئين بالرغم من أن ألمانياالغربية كانت قبل التوحيد، بل وبعده من الدول المتقدمة في هذا المجال. وغاية ما تحقق هو محاولة معظم دول العالم على المستوى العالمي، إحاطة اللاجيء بالحد الأدنى من الحماية المؤقتة لاعتبارات إنسانية، ووجدت الدول صعوبة في التسليم بالكثير لهذا اللاجيء، بحيث يكون له وضع موضوعي محدد كما سنرى. لواء شرطة متقاعد مدير إدارة المباحث الجنائية المركزية الأسبق