لم يكن أكثر المتشائمين يتخيل أن يكون منتوج حالات الولادة القيصرية التي انتظمت الشعوب العربية, مولودا مشوها, غير متكمل النمو وغير واضح القسمات. فعندما انسرب مصل الطلق في جسد الأمة العربية التي كانت حبلى بالثورة لسنوات خلت, على أثر اشعال الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده, توقع كثيرٌ من المراقبين أن ياتي الجنين في هيئة بديل ثوري ديمقراطي كامل النمو, متفق على شرعيته وغير مختلف على هويته, لكن شيئا من ذلك لم يحدث, إلا في حالة النموذج التونسي صاحب المبادرة في الانتفاضة العربية, على الرغم من أن الشعب التونسي لا يملك رصيدا وافرا في سوح النضال التراكمي, القائد في خاتمة المطاف إلى انجاب الثورة, وبالمقابل, فشلت الثورة المصرية في الوصول إلى غايتها, على الرغم من انتخاب برلمان الثورة, وبرغم تدافع المرشحين لحصر اسمائهم في سجلات السباق الانتخابي الرئاسي. بينما توقفت الثورة الليبية على الرصيف تماما, وكادت أن تُصبح نموذجا للفشل والانقسامات الحادة, بعدما ظهر إلى حيز الوجود ما يسمى بفدرالية برقة, في خطوة اعادت ليبيا إلى فترتي الاستعمار الطلياني, والملك الادريسي, ووضعتها فعليا امام حافة التشرذم, كل تلك المعطيات والمخرجات جعلت من المعارضة السودانية تمسك بطرفي حبل, ففي حين ينادي زعماء سياسيون باشعال الثورة, وصولا إلى البديل, يطرح آخرون مبادرة تحمل معكوس الآية, ويطالبون بالتوافق على البديل الثوري, إيذانا باشعال الثورة, وهي الرؤية التي تخندق عندها زعيم حزب الأمة القومي الصادق المهدي, الذي عُرف بصدعه المكرور, وقوله الموصول بأهمية الاتفاق على البديل, قبل المناداة بإسقاط النظام, حسبما حملت مبادرته الموسومة ب»مبادرة الشافي» التي اطلقها الرجل أمس الأول, مشددا فيها على أن «اسقاط النظام وسيلة لتحقيق أهداف أكبر, مؤكدا وجود وسيلة لإقامة بديل لكنه أشار إلى أن «خروج شعارات اسقاط النظام أولا تحول دون فعل ايما شيء». إذن المهدي يرفض قطعيا الدعوة إلى إسقاط النظام ما لم يتم التوافق على البديل, وأبعد من ذلك يناقض الرجل رؤية منظومة قوى الاجماع الوطني, الداعية إلى إسقاط النظام أولا. وهو التناقض الذي أرجعه الخبير الاستراتيجي الحاج حمد محمد خير إلى خوف المهدي من أن تأتي الثورة ببديل يطالب بابعاد الدين عن السياسة, منوها في حديثه ل»الأحداث» أمس إلى أن زعيم حزب الأمة لا يريد مباركة العمل المسلح لاسقاط النظام, ويرفض أن يكون ضمن العمل الفني المطلق لإزاحة المؤتمر الوطني بالسبل السلمية, ومضى محمد خير إلى أن المهدي كأنما يستحلي استمرار النظام, ويهدف لبقاء الوضع على ما هو عليه, تجنبا لقادم ربما لا يجد فيه موطئ قدم, ولاسيما انه زعيم لطائفة روحية تدين بولاء تاريخي مهدد بالانهيار جراء تطلعات شباب حزبه ممن يمكن ان يكونوا من صانعي الثورة». غير أن المحلل السياسي؛ عز الدين المنصور، يرى أن «المهدي معطون بتجربة فشل التجمع الوطني الديمقراطي في تغيير النظام, وإنه ظل يربط قوله الداعي إلى التريث قبل اسقاط النظام بأهمية هيكلة تحالف المعارضة», وانتهى المنصور في حديثه مع «الأحداث» أمس إلى أن المهدي يخشى من سرقة الثورة حال حدوثها, ولاسيما أن مخرجات الانتفاضة السودانية في نسختيها السابقتين, انصبت في غالبها لإعلاء شأن اسلاميي الخرطوم بصورة أو بأخرى», ونوّه المنصور إلى أن تمترس المهدي برؤيته المناقضة لتوجه أحزاب المعارضة, ربما قلل من إمكانية حدوث ثورة في السودان, وأردف يقول: «عدم الاتفاق في داخل المعارضة يصب في صالح بقاء النظام استنادا على حادثات تاريخية كثيرة». وعطفا على قول «المنصور» عاليه فإن أحزاب المعارضة فشلت في إزاحة نظام الانقاذ بعد أن عصفت بها الخلافات, منذ أن مهرت ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي المعارض في 12/10/1989م من داخل سجن كوبر الاتحادي مذيلا بتوقيعات أحد عشر حزبا إضافة إلى 51 نقابة واتحادا مهنيا, قبل أن تستتبع خطوتها بتكوين الجناح العسكري للمعارضة السودانية, والذي تحول إلى مسمى القيادة الشرعية بناءً على مقترح زعيم الحركة الشعبية الراحل دكتور جون قرنق في يوليو1990م, حسبما ذكر العميد عصام الدين ميرغني طه في سفره الموسوم (الجيش السوداني والسياسة). وليس فقط بل أن بند الكفاح المسلح الذي تمت اضافته إلى ميثاق التجمع لم يكن كافيا لإنهاء حكم الجبهة الاسلامية المغضوب عليها من الأحزاب السودانية, لجهة أن الاغتراب الجغرافي (تجمع الخارج) وعدم التوافق داخل منظومة المعارضة نفسها حقنا نظام الانقاذ بامصال البقاء, حسبما يرى الكاتب الصحافي فتحي الضو في سفره المعنون ب»سقوط الأقنعة... سنوات الأمل والخيبة», منوها إلى أن المحاولة الأولى لإزالة نظام الانقاذ المسماة بعملية «أنا السودان» كشفها النظام قبل أن تنسج خيوطها في 20/8/1991م نتاجا لتسرع قيادة الخارج بإعلان الخطة والمباردة بإرسال خطابات إلى قادة الوحدات العسكرية تحثهم للانضمام للشرعية», وانتهى «فتحي الضو» إلى أن الفشل ذاته لازم عملية «النهر الأخضر» بعدما أعلنت القيادة الشرعية دعوتها للمواطنين للالتحاق بمعسكرات التدريب لتأتي الاستجابة من (12) متطوعا فقط في اكتوبر 1991م لتقوم القيادة بإرسالهم إلى قرية اسوكي بجنوب السودان بقيادة العميد السر العطا ورعاية العميد عبد العزيز خالد ليتم تدريبهم بواسطة الحركة الشعبية, لكن العملية انتهت إلى مصير فاشل بعدما صادفت انشقاق الناصر وحملة صيف العبور». ويعود المحلل السياسي عز الدين المنصور منوها إلى أن المعارضة جربت الرهان على الكفاح المسلح وحصدت فشلا بائنا, منذ عمليتها الأولى إبان فترة التجمع التي استهدفت تفجير كوبري الإشراف ببورتسودان في يوليو 1992م, والتي نجح منفذوها في تفجير الكوبري جزئيا لكن ذلك لم يحرك الشارع للتظاهر ضد الانقاذ». غير أن حالة التخزيل التي تخللت حديث عز الدين المنصور لا تروق تماما لنافذين في المعارضة, ولاسيما زعيم المؤتمر الشعبي الدكتور حسن الترابي الذي دعا إلى ضرورة «قيام ثورة يتجمع حولها حاملو السلاح, الذين لا مجال لهم غير ذلك». وشدد في حديثه في ندوة عن الحريات بدار حزبه الأسبوع الفائت على أن ثورة مصر تعاني بعض الاضطراب. وقال نحن رسمنا الطريق للثورة المقبلة حتى تنتصر بسقوط النظام, لافتا إلى انه لن يوجد فراغ بعد الثورة, وإنما نظام مستقر بالبلاد في كل نواحيها». بيد أن المنصور يعود مقللا من امكانية عمل جماعي يجمع الترابي بالمهدي لإسقاط النظام؛ لجهة أن الأخير من انصار إعداد البديل, ومضى يقول: «إن ديناميكية الترابي لا تنجح في جسم ساكن مثل منظومة المعارضة, وهذا من شأنه أن يضر أكثر من كونه يفيد». لكن اللافت أن وصول البارجة التونسية إلى ضفة الأمان, لم يكن حافزا للنموذجين المصري والليبي للارتواء من نبع الاستقرار, بمثلما لم يكن دافعا كافيا لتوافق الشعب اليمني, الذي لا يزال يعيش «حالة ثورة», برغم انتخاب الرئيس عبد ربه منصور, خليفة غير متوافق عليه للرئيس على عبد الله صالح, فهل قادت كل تلك المعطيات الشعب السوداني؛ لأن يتريث قبل اطلاق صافرة ثورته على النظام, أم أن جنينها لا يزال في حالة تخلق؟. يقول المحلل السياسي عز الدين المنصور إن المعارضة لا تريد التعامل مع حقيقة أن الحزب الحاكم استطاع تسميم الأجواء السياسية بفزاعة البديل, إلى الدرجة التي أصبحت تلوكها ليس ألسنة المواطنين وإنما أفواه الساسة الكبار». بينما يرى الخبير الاستراتيجي؛ الدكتور الحاج حمد محمد خير، أن الحديث عن إعداد البديل قبل الشروع في الثورة قول يجافي المنطق والحقائق, منوها إلى أن الثورة تصنع قادتها وأن البديل ياتي من رحم الانتفاضة, وزاد: «لا يعقل أبدا الحديث عن بديل قبل الثورة إلا اذا كان القائل يطمح لخدمة بقاء النظام», غير أن الكاتب فتحي الضو أورد في الكتاب المار ذكره ما يفيد بأن التشبث بأهمية «إعداد البديل» التي يتمترس خلفها زعيم حزب الأمة حاليا لا تعدو سوى «تجريب للمجرب», وقال إن (المعارضة تحدثت عن تكوين «حكومة منفى» قال عنها عبد الرحمن سعيد وهو نائب القائد العام لشؤون العمليات في القيادة الشرعية إنها «حكومة مصغرة تؤدي عملا مركزا بواسطة وزارات تنجز مهامها في فترة محددة وتتكون من رئيس الوزراء ووزراء دفاع, خارجية واعلام), ومضى «الضو» إلى أن (الرجل - يعني عبد الرحمن سعيد - ذهب إلى أبعد من ذلك وتحدث عن أسماء لتولي أعباء الحكومة مثل محمد ابراهيم خليل وبونا ملوال وغيرهم للتدليل على جاهزية البديل لإدارة شؤون الدولة حال سقط النظام).