مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    أفضل أصدقائي هم من العرب" :عالم الزلازل الهولندي يفاجئ متابعيه بتغريدة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    تكريم مدير الجمارك السابق بالقضارف – صورة    أليس غريباً أن تجتمع كل هذه الكيانات في عاصمة أجنبية بعيداً عن مركز الوجع؟!    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    بأشد عبارات الإدانة !    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    السودان.. مجلسا السيادة والوزراء يجيزان قانون جهاز المخابرات العامة المعدل    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    ريال مدريد يعبر لنهائي الابطال على حساب بايرن بثنائية رهيبة    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    أمير الكويت يعزى رئيس مجلس السياده فى وفاة نجله    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر محمد الحسن حسن سالم (حميد): يا حسرة على مشروع لم يكتمل بعد!
نشر في الأحداث يوم 30 - 05 - 2012

عندما غيَّب الردى الشاعر الفلسطيني محمود درويش كتب الأديب الناقد محمد خير، قائلاً: لم تكن قصائده الأخيرة «تُشبه قصائد النهايات، بل تميزت بخصوبة وطزاجة؛ لعلّها السبب في ذلك الشعور المتناقض الذي سكن قلب كلِّ مَنْ فوجئ بالرحيل؛ إذ امتزج الحزن بالطمأنينة في تركيبة نادرة، الطمأنينة لأنّ ذلك الشاعر الكبير منحنا الكثير من الشعر، حتى إننا لن نستطيع أن نفتقده، والحزن لأن ذلك العنفوان المتبدي حتى السطر الأخير، كان ينبئ بالمزيد من القصائد والصور التي وقفت تنتظر دورها، فلم تسنح لها الفرص.» هكذا كان الرحيل المُرّ للشاعر محمد الحسن سالم (حميد) أشبه برحيل درويش؛ وإن اختلفت الأعمار، والأوطان، والأسباب؛ لأن بين الاثنين قواسم مشتركة، وتجارب حافلة بالدروس والعِبَر التي لا يستطيع الآخرون استنساخها حتى لو ظن بعضهم أنهم قادرون على ذلك. كان حميد مثل درويش، أنجبه رحم المعاناة وحيداً، وجعله الإيثار بالذات في سبيل النطق بقضايا الكادحين فريد عصره، رحل ولم يترك فينا وريثاً، بالرغم من أن إسهامات بعض المبدعين من أمثاله تتقاطع أسئلتها عند مشكلة الإنسانية، وجدلية الصراع بين الحُكام والمحكومين، وقضية الأشباه والنظائر في أصالة أهل الريف وحداثة أهل الحضر؛ ولكنها بلغة غير اللغة التي شكَّلت وجدان قصائد حميد، وبغير الأسلوب الفلكلوري الذي مازه عن الآخرين، والصور المتقابلة التي انتظمت ملاحمه الشعرية الطاعنة في شرعية أهل السُّلطة والسُّلطان، ومناجاته المثقلة بضنك المهمشين، ومرافعاته باسم الكادحين والغلابة التي رسمها في لوحات شاعرية خالدة.
حاول الكثيرون أن يسجِّلوا بعض كلمات الوفاء وقصائد الرثاء على شاهد قبر الراحل حميد الذي احتضنته مقابر الحاج يوسف بدلاً عن نوري التي أحبها حباً جماً لا دخنة فيه، وشأنه في ذلك أشبه بشأن شيخ العاشقين عبد الله محمد خير الذي أضحى يعيش غربة ذات ثانية في مقابر أحمد شرفي بأمدرمان بدلاً عن الكُكر، وكذلك الأديب الروائي الطيب صالح بمقابر البكري بدلاً عن كرمكول؛ ولا ندري ما السر الكامن وراء هذه المتناقضات. كتب كل مجتهد من أولئك الأوفياء من واقع معرفته بالشاعر حميد؛ فطرق بعضهم على باب الإنسانية الذي كان يمثل مدخلاً رئيساً لشخصية الفقيد، ووضع آخرون حواشي على متون مشروعه الشعري، ونظَّمت صفوة منهم مراثيها وكلماتها من نسيج الإنسانية الذي تحلى به الراحل ذاتاً ووصفًا، ثم ذوقت ذلك النسيج الإنساني البديع بدرر من قوافيه الحسان. لا جدال أن قائمة أولئك الأوفياء العارفين لأفضال حميد الإنسانية وعطائه الأدبي السابل تطول، ويصعب حصرها على صفحات مقال صحافي، ولكن من باب الاستدلال نذكر الأستاذ صلاح هاشم السعيد، والدكتور يس محمد يس، والأستاذ حسين خوجلي، والبروفيسور محمد زين العابدين عثمان، والبروفيسور عبد الله علي إبراهيم، والدكتور عبد الرحيم عبد الحليم، والأستاذ عبد الله الشقليني، والدكتور توفيق الطيب البشير، والدكتور عبد الرحيم محمد الحسن، والأستاذ أسامة حمزة، والأستاذ عمر محمد الحسن، والشاعر محجوب شريف، والشاعر محمد طه القدال، والشاعر أزهري محمد علي، والشاعر كمال حسن محمد، والشاعر عبد المنعم محمد أحمد العوض، والصحافي متوكل طه محمد أحمد، والصحافية أميرة أبا يزيد حسن. فلاشك أنَّ هؤلاء، وأولئك الذين سقطت أسماؤهم سهواً، قد تناولوا حياة الشاعر الراحل حميد من جوانب مختلفة، ووثقوا طرفاً من عطائه المنداح في فضاءات الإبداع المتنوعة التي جمعت بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ وبين الزين ود حامد وست الدار بت أحمد، وبين تطلعات أهل الجابرية العذارى، وأحلام نورة التائهة في بيداء الحضر، وآمال عيوشة العراض في مواعين الزمن الضامرة.
بعد أسابيع من وفاة حميد كتب إليَّ أحد الأصدقاء معاتباً: «إنك كتبتَ كلمات رثاء عن الشاعر عمر الحسين محمد خير (ت. 2005م)، والأستاذ الطيب محمد الطيب (ت. 2007م)، والشاعر عبد الله محمد خير (ت. 2008م)، والأديب الطيب صالح (ت. 2009م)، ولم تكتب عن الأستاذ محمد الحسن سالم (حميد)، هل لك موقف أيديولوجي معين؟ أم ما السبب وراء هذا التراخي؟» فكتبتُ إليه قائلاً: الشاعر محمد الحسن سالم (حميد) لا تسعه مواعين الانتماءات الأيديولوجية الضيقة؛ لأنه كان شاعراً بحجم الوطن الفسيح الذي تشكل في مخيلته الخصبة من واقع «بلد صمي وشعبِ واحد عصية على الانقسام». نعم أنَّ الرفاق قد وجدوا في بعض قصائده استجابات لأطروحاتهم الفكرية، فروَّجوا لعطائه السابل في هذا المضمار، ووصف بعضهم حميد باليسارية، ولكنها كانت «يسارية بلا ضفاف»، كما يرى الدكتور عبد الله علي إبراهيم؛ لأنها كانت منداحة في كلِّ أرجاء السودان، و»معطونة» بعرق الترابلة، وبحارة السُّفن، وحشاشة القصوب، وكلَّات الموانئ لم تجعل من نفسها طليعية متأففة عن معتقدات الآخرين، وعاداتهم، وتقاليدهم. هكذا كان حميد ملحاً له مذاق خاص في موائد كل قطاعات الشعب السوداني، وبيوت أشعاره فتوحاً للجميع، وأبوابها مُشرَعة لكلِّ طارقٍ. لذلك عندما رثاه الشاعر المهندس عبد المنعم محمد أحمد العوض، استهلَّ مرثيته بأبيات صادقة في معانيها، ومعبرة في مقاصدها عن فَقد ذلك الشاعر الفحل، الذي كان مسكوناً بحب الناس، ومهموماً بإنجاز مشروع الوطن الذي كانت تحلم به نورة: «نورة تحلم بي عوالم ... زي رؤى الأطفال حوالم ... لا درادر .. لا عساكر .. لا مظاليم لا مظالم». وفي ضوء هذه الخلفية المشحونة بآهات الآخرين وطموحاتهم المرجوة يجسد المهندس عبد المنعم عظمة الفقد الجلل بقوله:
ياناس نعزي مع منو؟
ونقول شنو؟
حامدنوا رب العالمين
حميد بنبْكي مع منو ؟
يمكن يباكو مع فطين
قول نورة يبقى مع الحسين
بالله مين قدرك حزين
آآه يا وطن
أيوه الوطن
ياهو الوطن
حميد صاحب مشروع شعري لم يكتمل بعد!
يصف الأديب صلاح هاشم السعيد عطاء الشاعر حميد الأدبي بأنه «مشروع شعري» لم يكتمل بعد، ولا عجب أن هذا الافتراض محل إجماع كثير من الأدباء والنقاد؛ لأن إشكالية ذلك المشروع تكمن في حب الوطن، ومعاداة ظلم الحاكمين، وتحريض المحكومين على مدافعة الظلم. قد نسج حميد هذه المنظومة الثلاثية في أول قصائده التي أنشدها بعد رحيله إلى الخرطوم، التي كانت تعاني من ظلم العسكر وجبروتهم، فجسد موقفه الرافض لحكم العسكر بقصيدته الرمزية الشهيرة ب «نادوس»، التي نادى فيها ثورة الغلابة، قائلاً: «تعالي وشي الوطن دركان عساكر آخر الزمن واطاه *** تعالي وما علي كيفك تعالي وريِّحي الواطة «. فلا جدال أنَّ هذه القصيدة التحريضية قد جلبت عليه وابل غضب النظام المايوي، فتعرَّض حميد، حسب رواية الدكتور يس محمد يس، «لأسوأ أنواع المضايقات من رجال الأمن والسُّلطة، وهو لا يملك حولاً ولا قوةً»، سوى الكلمة التي صنع منها سلاحاً ماضياً في وجه زبانية النظام المستبد، وجعل من رائحتها باروداً في أنوفهم، عندما استنصر بالغبش الغلابة، قائلاً:
آه يا غبش
ما عندي ليكم غير نغيم
برجوه ينفض لي غبار زمن القسى الكتَّاح
يهز عرجون نخل صبر الغلابة الطال
يحت يخرت تباريح الأسى الممدودة فوق نور الدغش
يا نورة آه
كانت نورة تشكل أبعاداً رمزية مصفوفة في مخيلة مشروع حميد الإصلاحي، الذي يبدأ بتوصيف المشكلة، وعرضها من جوانب متعددة، بغية خلق نوعٍ من الوعي الجمعي في أذهان الناس، ثم بعد ذلك تبدأ عملية التحريض الثورية الموثَّقة بشارات النجاح التي تُشبه في نهاياتها مبادئ جمهورية أفلاطون القائمة على العدل والمساواة بين الناس، وفي رخائها مدينة الفارابي الفاضلة. لذلك كانت نورة تعني بالنسبة له الوطن الجريح، وتعني التكافل بين الناس، وتعني التمازج القومي في السودان عندما يناديها قائلاً: «يا بت العرب النوبية... ويا بت النوبة العربية... يا فردة نخوة بجاوية... أو شدر الصحوة الزنجية»، وبذلك يُؤكِّد ما ذهب إليه البروفيسور يوسف فضل حسن: أنَّ قطاعات كبيرة من سكان السُّودان الأصليين تعرَّبت بفضل نفوذ القبائل العربية الوافدة، «واستوعبت البنيات القبلية، فاختار الهجين الجديد الانتماء إلى الأصول العربية، عبر النسب، وتمثلوا العادات العربية مثل الوراثة عن طريق الأب، وليس الأم كما كان شائعاً بينهم. ولمَّا تمَّ استعرابهم بدَّلوا لغاتهم الوطنية بلسان عربي، ولكن غالبية البُجة، النُوبة القاطنين شمال منطقة الدَّبَّة ظلُّوا متمسكين بلغاتهم الأصلية حتى يومنا هذا. وكانت عملية الاستعراب العرقي والثقافي تفاعلاً ذا اتجاهين، يشمل استعراب المجموعات الوطنية، وتأصيل العرب، وتأثرهم بمقومات سودانية؛ دماً وثقافة.» وبعد ذلك يحدد الشاعر حميد جغرافية الوطن الجريح «ما بينات نخلة وأبنوسة»، وهنا تتشكل رمزية أخرى أشبه بتيار الغابة والصحراء الذي أُسس وفق منطلقات شعرية وثقافية، تنشد التصالح بين الثقافة العربية والثقافة الإفريقية في السودان. فالغابة كانت تعني لرواد هذا التيار رمزية العنصر الزنجي، والصحراء رمزية العنصر العربي، وبلغت هذه الرمزية ذروتها في مشروع «إنسان سنار» الذي نصَّبه الدكتور محمد عبد الحي ورفاقه الخُلاسيون إنساناً معيارياً لهُويَّة أهل السودان؛ لأن السلطنة الزرقاء من وجهة نظرهم كانت تجسد معالم التلاقح السياسي، والاجتماعي الذي حدث بين العبدلاب (العرب) والفونج (الزنوج)، والذي أفضى بدوره إلى تشكيل هُويَّة أهل شمال السودان ذات السحنة الخلاسية.
وبعد أن رسم الشاعر حميد خريطة السودان بالكيفية التي أشرنا إليها أعلاه حاول أن يبلور مظالم أهله في قصيدته المشهورة ب «الجابرية تحي الثورة» والجابرية من خلال قراءة نصوصها الشعرية قرية منغلقة على ذاتها، وهمومها مفتوحة في فضاء السودان الواسع، حيث جسدها الشاعر في محاور قصيدته الأربعة الرئيسة التي يتصدرها محور الجابرية الرمز، الذي يشكل مطاطية البُعد المكاني، وطبيعة الهم المنداح في فضاء الهموم الإنسانية المشروعة، ثم ينتقل من هذه الهموم إلى شرعية المطلب الجماهيري، ونرجسية الوعد الكاذب الذي أعلنته الحكومة، وآثاره النفسية السالبة على أهل الجابرية، وأخيراً يلقي الضوء ساطعاً على دور المثقف الباخس لتطلعات الأغلبية الغالبة من أهل الجابرية ومعارضته الصارخة لنظام العسكر. وبهذه الكيفية عَمَدَ حميد إلى وضع الريف السوداني على بؤرة عدسة مقعرة تعكس واقع التهميش الذي يعاني منه القابضون على جمر المعاناة؛ لأن الخدمات الاجتماعية والصحية والثقافية لا تُقسم بينهم وأهل الحضر سوية، فضلاً عن أن أهل السُّلطة لا يزالون سادرين في غيهم وخداعهم المتطاول مع الزمن، دون أن يدركوا أن فلاحهم وصلاحهم مرهون بشفافية عطائهم الخدمي المنبسط للناس أجمعين، وبوضوح رؤيتهم في تقسيم الثروة والسُّلطة بين المركز والتخوم عدلاً، وفق برامج إصلاحية تسعى إلى النهوض بقيمة الفرد والجماعة في إطار حكومة سودانية راشدة.
ولذلك يصف الأستاذ عبد الله الشقليني ذلك الواقع من زاوية أخرى قائلاً: عَبَر حميد «النيل إلى فضاء السودان الرحب، وأغدق عليه من نبض مشاعره، وتمكن من حمل بذرة الوطن الكبير بتنوعه الثقافي، ولامست قصائده عاميّاتٍ انتشرت في بقاع السودان الكبير كافة. لم ينزع لباس اللغة الثقافية الخاصة بموطنه الأول، بل حمل البيئة في مخادع ليله، وحمل شعلتها المنيرة في صدره، وجمّل بها بيوت الوطن المتعدد المشارب، والسحنات، والأعراق، واللغات، وحاز شعرُه المكانة العالية في وجدان العامة والخاصة، بل حمل الطعام الذي تصنعه الأمهات في» الدُونكَّا»، ونشر طعمه الشِعري على كل البطاح.»
هكذا كان حميد مثقفاً حسب تعريف الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937م) الذي يرفض التعريفات القائمة على أساس التصنيف الذهني واليدوي؛ لأنه يعتقد أن مفهوم المثقف أوسع من ذلك، سعةً تشمل كل إنسان يمتلك رؤية ثقافية معينة تجاه البيئة التي يعيش فيها؛ لأن الثقافة في عُرفه ليست مهنةً، ولا معياراً يُقَسَّم المثقفون على أساسه إلى طبقات وظيفية. ونلحظ أن هذا التعريف النائي عن الخيار النخبوي يؤيده الكاتب المصري أحمد مجدي حجازي الذي يصنف المثقف في ضوء كسبه المعرفي الناتج عن خبرته المتراكمة، أو تعليمه النظامي، ويشترط أن يكون ذلك الكسب المعرفي موظفاً لمصلحة المجتمع، وليس كسباً خاملاً. ومن ثم يقسم نشاط المثقف إلى نشاط محلي حيث تكمن الخبرة ويتعاظم الارتباط بالقيم المحلية، ونشاط قومي حيث تتكامل الخبرة والوعي الثقافي المتسامي على القيود والروابط المحلية.
وواضح من هذه التعريفات أنَّ النضال في سبيل ترسيخ القيم الإنسانية بين الناس يشكل المحصلة الوسطى التي يستند إليها مفهوم المثقف القويم. ولا عجب أن هذه الروح النضالية كانت محطة مهمة في حياة الشاعر حميد، بلور الدكتور يس بعض معانيها باستشاهد فطن من رائعة حميد الموسومة ب»النخلة»، منوهاً بأن النخلة في عُرف أهل الشمال تعني الاستقامة والعفة، وتعني التسامح، وتعني التكافل، وتعني الثبات على المبدأ؛ لأنها تموت واقفة بعد أن يتعطل نبض قلبها العامر بالعطاء، لكن فوائدها تستمر إلى ما بعد الممات، وتسد ثغرات مهمة في حياة الناس. ودعونا في هذا المقام نكتفي بالصمت، ونسوح مع كلمات حميد النضالية الشارحة لنفسها برمزية سامقة المقاصد، والمجسدة لعطاء النخلة في مراحل حياتها ومماتها المختلفة.
النخلة في الليل المهول
وحيدا في عز الرياح
فارس يدارق في الرماح
الجايا من كل اتجاه
*****
ما ليها غير تطرح تمور
تملأ الشواويل ... القفاف
ينتم زين ... ينحل دين
ينطلق ضهر زولا بسيط
واقف على حد الكفاف
ومن ركة الرزق المتاح
رزقو المعلق في الصبيط
ينزل كما الطير الخفاف ...يقدل نشيط
يخضر زي شتل الضفاف
كل ما النشاف بدأ في الصبيط
****
والنخلة لو عنف الرياح ... الصاقعة
أهوال الفصول ... آفة الذبول ...
قدرت على ساقا الهفيط ... تقع
آ بتموت .......
تلقاها خشت في البيوت ... بي كل صراح
تبروقة ...سجاجة طهورة ..
طبق من العرجون ... ضنيب طابة طبطابة..
قفة وكسكسيكة ... حبل متين
فتلوهو في ضل الدليب
نشلوبو من بير للشراب
نسجوبو بنبر وعنقريب
****
النخلة ترباية العباد
بي جلالا تنحول رماد
ورمادا ينحول سماد
وسمادا يدخل كم بلاد
وديانا تخضر والبطاح
شوف كيف كفاح النخلة
شوف كيفن بتتحدى الرياح
تصبر على مر الحياة
وتنمطق الموت بي جلد
****
وكل الرياح فوقا بتمر
يكفيها دا ... ويكفيها صاح
ما استسلمت لي ريح غريب
وكل الرياح فوق بتمر
والنخلة ما بتعرف خلاف ريح اللقاح
والهمبريب ريح الصلاح
يا معوض الليل بالصباح
يا معود النار اللهب
روض نخلنا على الرياح
وفي لجة البحر الغريب
أدي الرواويس الصلاح
يكفيها دا ... يكفيها صاح
مفردات المشروع
يقول الأستاذ صلاح هاشم بشأن مفردات حميد: «نحن هنا بصدد الاحتفاء بشاعر الشمال محمد الحسن سالم حميد، فهو شاعر مسكون بازدحام، ومترع بلغة رضع أسلافه من لبنها، لغة تخلَّقت وتأصَّلت في الماضي، واكتملت هناك، لذا وجد حميد خواتم روحه فيها، وملء التعبير عن ذاته، بعد أن نفض الغبار عن الكثير من مفرداتها، وأزال ما علق بصياغاتها وتعابيرها من شوائب، كما أعاد الشباب إلى العديد من الكلمات، والأوصاف بعد أن اشاختها القشور، واستعلائية الوسط الخرقاء. فأصبح بذلك صدى مدوياً وعلامة مميزة، واستطاع أن ينقل صورة صادقة وأصيلة عن هموم وأهواء أهله البسطاء الكادحين. حميد لم تبهره أضواء المدينة، ولم يدرج مشروعه الشعري داخل لغة السائد المألوف، كما فعل بعض شعراء الشمال، اعتقاداً منهم، أن تبني لغة المدينة، لا يُعدُّ خضوعاً، أو اندراجاً في سياقها، بل فيه تحدٍّ لنفوذها، وسيطرتها، باتخاذهم لأدواتها الخاصة. فقط لا أدري كيف لعم عبد الرحيم أن يكون بغير الذي كتب به.!!.. وكيف لنورة، وطيبة.!!..» ويصب قول الأستاذ صلاح هاشم فيما ذهب إليه من قبل البروفيسور علي المك، عندما قدم ديوان أنا المعجب للشاعر عبد الله محمد خير، قائلاً: إنَّ بعض المثقفين يظلمون الشعر العامي عندما «يقولون عنه أنه لا يسمو ولا يتسامى للتعبير عما في النفس من خبايا وشجون، ولعل ذلك قد جعل العامية محصورة فيما يسمى بشعر الغناء على الأقل»، لكن عطاء شعراء العاميَّة السابل، وفي مقدمتهم حميد، قد تحدى «دكتاتورية الكلمة الفصيحة»، وفرض نفسه في الريف والحضر. وبذلك يكون الأستاذ صلاح هاشم محق فيما ذهب إليه؛ لأن خصوصية التاريخ لا تُولد، وإنما هي سيرة صنعتها الأيام والسنون، وتعاقبت الأجيال عليها ما بين انكسار وصمود. فحميد كان يمثل ذلك الصمود الذي نقل العامية الدارجة من حيز المحلية إلى مصافي القومية؛ لأن دارجة حميد كانت تكتنز معاني جمالية سامية، وقيماً إنسانية شامخة، لذلك استطاعت أن تشكل وجدان معاناة أهل السودان، الذين تواضعوا على فهم نصوصها الضاربة في أعماق المحلية لفظاً، والجاثمة في أحشاء مشكلات أهل الأرياف والحضر معنى ورمزاً، فضلاً عن أنها بشرتهم بغدٍ مشرقٍ، إذا واصلوا النضال بصبر أشجار النخيل، وصلابة عم الرحيم. لذلك ذاع صيت أشعار الشاعر حميد في كل البنادر والأرياف، حيث نقلها المبدعون، أمثال الفنان مصطفى سيدأحمد، والفنان يس عبد العظيم، والفنان محمد ج بارة، والفنان صديق أحمد، والفنان محمد النصري، والفنان محمد وردي، والمهندس عبد العظيم منصور، والفنانة حنان النيل، والمطربة نانسي عجاج، وبفضل هؤلاء وفضل قنوات التواصل الحديثة اقتحمت ألفاظ الريف المنثورة شعراً قواميس أهل الحضر والبنادر ومعاجمهم، مشكلة نغماً في أسطواناتهم المسموعة، وشاغلة حيزاً في قنواتهم الفضائية المرئية. وبذلك استطاع حميد أن يغرس مفردات مشروعه الشعري في وجدان أهل السودان باختلاف ثقافاتهم وأعراقهم المحلية.
ونلحظ أيضاً أن مفردات مشروع الشاعر حميد تتمتع بقوة اكتنازية خارقة؛ لأنها تحمل أكثر من تفسير، وذلك بحكم أغلبيتها الموغلة في الرمزية، والقابلة للتطويع والتطبيع حسب مزاج القارئ، أو السامع الثقافي، ودرجة وعيه وإلمامه بالمناسبات التي طُرحت فيها، وأحياناً نلحظ أنَّ آخرين يوظفونها حسب سياقات أجندتهم وخطابهم السياسي المطروح. ولذلك عندما سألت الإعلامية نسرين النمر الشاعر حميد عن معاني بعض المفردات، رفض الإجابة عن ذلك السؤال، متعللاً بأن مهمة الشاعر تنتهي عند أطلاق النص في باحات الهواء الطلق وفضاءاته الإسفيرية، أما وظيفة الشرح، أو التفسير، أو التعليل، أو التوظيف حسب المناسبات فهي وظيفة مفتوحة لكلِّ قارئ فطن، له أن يفسرها كيف شاء، ويوظفها حسب منطلقاته النضالية التي تصب في معين المشروع الذي ينشد حميد تحقيقه.
(يتبع: الحلقة الثانية)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.