تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    المريخ يكسب تجربة السكة حديد بثنائية    لأهلي في الجزيرة    مدير عام قوات الدفاع المدني : قواتنا تقوم بعمليات تطهير لنواقل الامراض ونقل الجثث بأم درمان    شاهد بالفيديو.. "جيش واحد شعب واحد" تظاهرة ليلية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    تامر حسني يمازح باسم سمرة فى أول يوم من تصوير فيلم "ري ستارت"    وزير الخارجية : لا نمانع عودة مباحثات جدة وملتزمون بذلك    شاهد بالصورة والفيديو.. المودل آية أفرو تكشف ساقيها بشكل كامل وتستعرض جمالها ونظافة جسمها خلال جلسة "باديكير"    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام الفريق إبراهيم جابر يطلع على الخطة التاشيرية للموسم الزراعي بولاية القضارف    شركة "أوبر" تعلق على حادثة الاعتداء في مصر    معظمهم نساء وأطفال 35 ألف قتيل : منظمة الصحة العالمية تحسم عدد القتلى في غزة    عقار يؤكد سعي الحكومة وحرصها على إيصال المساعدات الإنسانية    قرار بانهاء تكليف مفوض العون الانساني    بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    ((نعم للدوري الممتاز)    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزمة الوطنية: عشنا التجربة، غاب المعنى(1-2): اللقاء التفاكري حول الأزمة الوطنية في السودان- (26-27 مايو 2012م)
نشر في الأحداث يوم 02 - 07 - 2012

لا نطمع من لقائنا هذا للتفكر حول الأزمة الوطنية العثور على وصفة سحرية لها. كان من سبقنا أشطر. وليس سوء ظننا بوقوعنا على تلك الوصفة خيبة أمل وإنما هي واقعية لا مهرب منها. بل لن تصدقنا الجمهرة في السودان، من فرط توالى الوصفات وتهافتها، زعمنا أن في محصلة لقائنا المخرج الأكيد من هذه الأزمة. ومع توافر سانحات الحل ومواثيقه ودورانها في خطاب المصالحة إلا أن القوى السياسية لم تبلغ بها الغاية. وهذا التوافر لحل ترسى به البلد على شط الأمان ومفرداته مما يبعث على التفاؤل بدنو نهاية أحزاننا. فقد قيل ليس من قوة تعدل قوة فكرة أزف وقتها. فالاختراق، أي النفاذ إلى غاية مرغوبة مرجوة، يقع حين يلتقي فجأة ما أصبح ممكناً بما هو ضروري ضربة لازب.
برعاية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (معهد الدوحةالدوحة، قطر
قد نعجز عن إحصاء المرات التي نصحنا فيه العالم من حولنا بحاجة صفوة الحكم للإرادة السياسية لتجاوز عقابيل أزمتنا الوطنية الغليظة. والإرادة السياسية ليست «جمبازا» في الحسم والقطع. إنها ثقافة. فهي عزيمة مفكرة واثقة رابطة الجأش تعتبر قرارها على ضوء علم دقيق بتوازن القوى، بملكات الآخرين ورغائبهم، وبالتنزل المبدئي عندها، دون تغييب للمرامي البعيدة. وهي لا تقع لمن لا يحسن الحديث لغير ثوابتها، والنواة من تابعيته، ولا يملك شجاعة قيادتهم في طرق لم يألفوها ويستوحشوها. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في حلف الحديبية. فلم يقبل فيه بأذى الخصم بمقتضى الظرف فحسب بل حمل النصير حملاً على المساومة. وقد أزعجني دائماً استعلاء بعض المعارضين عن المساومة عملاً بقول الشاعر أمل دنقل «لا تساوم». وقلت لهم هذا حديث شعراء عن إقليم شغاف الروح وأشواقها. والمساومة فيه وجودية وارتكابها خيانة. ولا أعتقد أن الشاعر قصد التكتيك في الممارسة السياسية التي تجيز تلك المساومة من غير ابتذال. فأنتم أدرى بأمور سياستكم. وأسعدني أن الشفيع خضر صدّر كلمة أخيرة له بقول إنجلز: «لا للمساومة! إنها سذاحة أن يجعل المرء من جزعه الشخصي برهاناً نظرياً».
تري هذه الورقة أن مكمن فشلنا المشاهد في الممارسة الحاكمة أو المعارضة أننا لم نحسن تشخيص الحالة السودانية. فقد افترضت الأطراف أن ثمة فرقة ناجية بعد عقود من الحكم الوطني لم نستثمر فيه الإرادة الوطنية المستعادة بوجه صحيح. فما نزال نعتقد أنه بوسعنا مواصلة لعبة معارضة-حكومة. وقلَّ من اعترف بأن الناس جربت أطراف النزاع السياسي في الحكم والسياسة وما بينهما ولها سوء ظن معتبر في رهن مستقبلهم بأيهم. وهو ما سماه الراحل محمد إبراهيم نقد ب»توازن الضعف». وهذا الضعف عرض من أعراض إرهاق النادي السياسي ألمح ألكس دي وال إلى مظهرين منه:1) الشيخوخة الباكرة وغير الباكرة لرموزه حتى بين الحركات المسلحة، 2) خلو الساحة من أي فكرة جديدة ملهمة بعد أن جرب السودان الأفكار الأكابر كلها (يمين ويسار وهامش) فتهاوت وسدت خرائبها الطريق نحو أفكار ملهمة جديدة. ولم يتبق للصفوة من تلك الصغائر سوى «الثوابت».
فالوهن ضارب أطنابه بين أهل الحل والعقد السياسي. فالحكومة تكرر نفسها لأنها لم تعد قادرة علي ابتكار الحلول كما قال ناشط من شرق السودان. فقد بددت مختارة السانحة حتى حين جاءتها على طبق لتوحيد كثير من الناس على صعيد الوطنية بعد هجليج بما لقيه الجيش (والحكومة وكالة لا أصالة) من تأييد لم يحظ بمثله منذ عقود. فطغت مشاكلها الأسرية وعطلت التفكير. فكان النبأ الأروج في أعقاب هجليج هو نزاعات وزراء وموظفين ومفاسد مَيَّزها رأس النظام بالحسم دون سواها. وظلت الحكومة ورموزها يتحدثون إلى نواتهم في الدوائر الدينية القصية والجهادية دون الآخرين. بل كان بعض الآخرين موضوعاً لتفتيش الضمير إن كانوا وقفوا مع الجيش حقاً أو مخاتلة. وأنهى الجيش توقع المواطنين في أن يكون لهم حق مساءلة ولاته بأن قال إن كبوة مثل هجليج واردة في أصول الحرب والسؤال عنها في غير محله. بل صارت الحلول غير الحلول. فشكاو السلطة الإقليمية في دارفور، وليدة اتفاق الدوحة، من بؤس موالاة الاتفاق عليها كادت تيئس الناس منه. وما يزيد الطين بلة أن ليس للحكومة حلولاً فحسب بل وليس لها اقتصاداً للحلول متى وقعت عليها . فألحفت السلطة الإقليمية في دارفور ألا تُعَد «مصلحة حكومية» عادية لأن الأوضاع التي تعالجها حاقنة ومتفجرة.
وألم بالمعارضة ضعف أليم جنحت إلى الاعتراف به أخيراً. ومن مظاهر هذا الوهن انعقاد 3 مؤتمرات متزامنة لحزب الأمة دفعة واحدة. وهو ضعف أزهد بعض أطراف المعارضة في الحلول تحت هذا النظام فأختارت حرب التحرير التي قل أن اعتبرت المعارضة السلمية إن لم تكن قد عدتها لا شيء. وبعضها دعا إلى إسقاط الحكومة مثل الشيوعي والشعبي ثم تراجع عن هذا الخط الذي طرأ لها في ساعة غضب. وعادت للتعامل مع حلوله البائرة باحتجاج شديد. من جهة أخرى حدا الوهن بالبعض مثل الاتحادي الديمقراطي لولوج بيت الخصم على مبدأ إن لم تصرعه فساكنه.
من جهة أخرى بات واضحاً حاجتنا إلى معارضة تتعاطى مع اجمهرة الناس وبمسرب أعمق من مجرد التظاهرات. وحتى في هذا الباب صارت عبارة نقد «حضرنا ولم نجدكم»، حتى لو لم يقلها، مجازاً في انقطاع المعارضة عن جسد الأمة الحي. فصارت قوة الشعب قاصرة على تهديد المعارضة للحكومة بها في مثل :»سننزل إلى الشارع» في ملابسات الربيع العربي. وتصدر الحكومة من الجهة الأخرى شهادات براءة من السقوط عبر هبة شعبية. وتهزأ الحكومة من دعوة تحريك الشارع بأن المعارضة معزولة عنه مرة وبأنها قد أعدت لها وللشارع أنكالاً وسعيرا متى ما جروءت.
وهذا التنابذ بالشارع يتم في وقت لم يتوقف الشارع نفسه عن التعبير عن معارضته الغريزية للظلم. ربما لم تنضج معارضته في ربيع عربي. وهذا ليس مهماً إذا لم نعتقد في الرجم السياسي. فلا يكاد يمر يوم إلا وللشارع وقفة احتجاج حول معنى معارض قديم أو مبتكر. فوقفات الضيق بانقطاع الخدمات، إذا اقتصرنا على ولاية الخرطوم، في بري والباقير وبيت المال وغيرها معروفة. ونشأت حركات لحماية البيئة أوسع من ما تعرفنا عليه من حماية الوحش. وكان لسكان أحياء ود دفيعة بالحاج يوسف وغيرها مطالب بالهواء النقي والحماية من الهوام وتلوث المياه. زد على ذلك الأحياء وشبابها الذين خرجوا لصد تغول المستثمرين على ساحات الرياضة ورئات تنفس أحيائهم. وما تزال مقاومة عمال البحر في بورتسودان ضد غول التكنولجيا الجائر مستمرة. وهذه الوقفات هي بشائر الربيع العربي لمن اعتبر بحاضنات ثورة مصر الباكرة.
غاية ما نطمع فيه من وراء لقائنا هذا أن نجدد قنوات الحوار الوطني حول صورة الوطن ليقوم على معرفة ويثقف الإرادة السياسية فتنجدنا من إحننا وشتاتتنا وثوابتنا. وقد تكرر إغلاق تلك القنوات بترسانة قوانين كبلت بها الحكومات الديكتاتورية حرية التعبير وأكملت دولة الإنقاذ الناقصة. ومما أبطل الحوار قولاً واحداً عسكرة «السياسة» والدولة حتى النخاع ولنصف قرن من الزمان. فمكّن النزاع حول الحكم بواسطة السلاح لعسكرة السياسة عندنا على ضفة الدولة والمعارضة. وصار للجيش أمة بدلاً عن العكس. فنصرف في تقدير متواضع 75% من ميزانيتنا على القوات المسلحة. وهذا ما وصفه أحدهم بأنك مثل من يمرن عضلة واحدة في جسمك وتترك ما عداها. ودفعت الخشية الجيش من حجب العالم السلاح عنه إلى التوسع في الصناعات الحربية وما تفرع من ذلك من دخول كبير في السوق بالشركات والبنوك والتأمين. ولما لم تعد للجيش أمة جنح نحو الاحترافية المغلظة كعقيدة قتالية ومكافآتها اوامتيازاتها التي لم تعد تخفى.
هذه الأغلال لا ريب هي جوهر تعثر الحوار الوطني. ولكن اكتنفت العمل السياسي والفكري بشكل عام أدواء ذاتية حالت دون استثمار هامش الحريات المزعوم أو المعارضة كمؤسسة سياسية قائمة على رؤية، أي على ثقافة. فأدنته إلى التسييس وباعدت بينه وبين الثقافة. وقد أجاد مامون التلب وصف تلك الملابسات بقوله إن فقر الساحة الثقافية المتمثل في خلوها من المنابر (المجلة، المنابر المستقلة، الجمعيات الإبداعية والعلمية جيدة المهنية) ساقت المثقف لأقصر الطرق للجمهور وهو الجمهور السياسي الجاهز بشروطه المعطلة للاجتهاد في ثوابت الجماعة المعينة والتربص بثوابت غيرها.
تتجلى قلة حيلة المثقف الذي تجرد من المنابر في حيرته مع الرأي. فبدلاً من بثه بين الجمهور ليأخذ به في طريق تكوين رأي عام حول أجندة التغيير نجده إئتمن الحكومة عليه في صورة «نصيحة» يأمل أن تعمل به. ولذا كان أكثر أبيات الشعر العربي دوراناً في خاتمة تلك الآراء-النصائح هو :نصحتهم نصحي. بل تجد من بين عتاة المعارضين المنادين بالإطاحة بالحكومة من يعرض في آخر اليوم خدماته على الحكومة لفض هذه المشكلة أو تلك لما له من دالة على الجهات المحاربة. وصحب اضطراب البلد وضمور الحريات المضطرد تلاشي أدوات المثقف (الجمعية العلمية) أو تدجيناها (النقابات المهنية). وأصاب العطب وظيفة الجامعة، كمؤسسة، كحاضن لكل تلك الإمكانيات. ووقع على الدراسات السودانية إضعاف مزدوج. فلم تعد الجامعات مستطيعة تمويل البحث العلمي وفي العلوم الاجتماعية والإنسانيات خاصة. كما ضمرت المكتبات، بل نشأت جامعات بغير كبير اعتبار للمكتبة الحرفية أو الرقمية. وتقطعت أسباب الجامعة بالأكاديمية الغربية نظرأ للمقاطعة. فأكتنفتنا محلية غير جائزة في معيار الأكاديمية بخاصة بعد تفريطنا في اللغة الإنجليزية كلغة اتصال عالمي في نوبة إيدلوجية. وزاد الطين بلة أن اضطراب البلد وعزلتها وحربها طبع ما تبقي من اهتمام أكاديمي غربي بطابع»الناشطية» يؤيد الواحد فريقاً دون فريق في النزاع. وضمر الأدب الدراسي عن السودان (أقله في الولايات المتحدة) غير أدب الناشطية حتى قال أحدهم أنه غلبت أكاديمة القضية والناشطين عن الرق والطهور الفرعوني والجنجويد على أكاديمية الدراسات المحيطة التي تأخذ كل ذلك تحت جناحها. وظلت المعرفة بالسودان وظيفة للبحث كاكتشاف (أكثره اكتشاف عاهات) وانحرمنا من ال Scholarship التي هي الاكتشاف ثم تأليف أو تركيب الاكتشافات في معنى مفيد.
وبهذه العزلة المركبة عن الأكاديمية الغربية فاتنا الأخذ بنظريات مستجدة منذ الثمانينات شحذت الفكر النقدي وثقفته من مثل الاستشراق أو ما بعد الاستعمار أو الحداثة أو البنائية والقومية أو الإثنية أو الأدائية أو ابتناء المعرفة. وما فاقم من خسارتنا بذلك الفوت أن قضايانا المصيرية (الهوية، الحركة القومية، الإثنية) هجمت علينا خلال نفس المدة فوجدتنا عزلاء من نظر الفكر النقدي المستحدث وأدواته فلم نحاجج فيها بعلم فأنتهت إلى تسييس دارج.
فتجدنا عالجنا مسألة الحركة القومية بغير بصر بالنظريات المستجدة في ميدانها. فجرى الاتفاق بين أفضلنا على أن أن مشكلة السودان في النخبة النيلية التي فرضت هوية مصطنعة للسودان بحكم استئثارها بالسلطان والثروة. ويعنون بالصفوة النيلية كل من انتسب لها عرقاً وارضاَ. وهذا تحليل نظر إلى الحركة الوطنية ككل جامع مانع وأخلاها من الأطراف التي تكونت منها فتحالفت واختلفت وتنازعت. فالدراسات المعاصرة ترى الحركة الوطنية بؤراً وحَّدها العدو الاستعماري ولكنها اختلفت لا في ما سيكون عليه الوطن المستقل بل في تكتيكاتها في حرب المستعمر. وسيصح قول القائلين بأن النخبة الشمالية اصطنعت هوية عربية إسلامية وألبستها وطناً أوسع منها متى أنصرف قولها إلى وطنية مؤتمر الخريجين. وهي وطنية لم تخف اصطناعها لتلك الهوية في وثائقها البرنامجية في الثلاثينات. ولكن كان إلى جانب هذه الوطنية حركات وطنية للعمال والطلاب والمزارعين والمرأة وللشيوعيين والجمهوريين والجماعات القومية مثل الجنوب والبجا خاصة. بل كانت الحركة العمالية منذ 1948 سيدة المبادرة. وتخيلت الوطن معترفة بتنوعه الثقافي والإثني والتاريخي.
فلو اهتدينا بالنظرية التي اتفقت لمدرسة ما بعد الاستعمار فنحلل «وطنيات» شمالية تعددت لا «وطنية» شمالية جامعة لما ران على كثير من الشماليين الشعور بالتطفيف حين وجدوا أنفسهم محشورين في حركة وطنية ربما صارعوها هم بأكثر من صراع الهامش لها. فلو جئنا للجد فالدولة الدينية لم تبدأ بالجنوب وإنما بالخرطوم في أعقاب أكتوبر. ووقف شماليون كثر في «الجبهة القومية للدفاع عن الديمقراطية» للدفاع عن شرعية الحزب الشيوعي وضد مشروع دستور 1968 الإسلامي الذي احتكر الوطنية وتوصيف المواطنة ومن يستحقها ومن تسقط عنه لهرطقته. بل كانت بعض دواع انقلاب 25 مايو 1969، على علاته، تعطيل البرلمان والحكومة التي أجازت ذلك الدستور. وجاء عن قادته قولتهم إنه دستور لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب به.
وإذا تجاوزنا الاستثناءات أعلاه لعمومية القول عن صفوة عربية إسلامية كرَّهت في وطن متنوع نقول إن الجنوب كان بصورة عامة عظمة نزاع بين الفرق العربية الإسلامية السياسية لم تحفظ لأوجاعه التاريخية تلك المسافة الواجبة لكي تصونه كآخر من الدمج البسيط في مشروعها السلطاني حاكمة أو في أجندة مظالمها معارضة. فنجد قوى المعارضة مثلاً استفزها تحالف النميري مع القوميين الجنوبيين في 1972 فكادت له بظن السوء في اتفاقية أديس أبابا كما هو معروف. فلم تنم ذوقاً للجنوب أو شغفاً به يتجاوز «التسيس» المرتجل لمسألته. وكان من شأن هذا الشغف والذوق أن يزكيا لهم تجديد ثقافتهم العربية الإسلامية لتتعافى من ضروب حزازاتها التاريخية حيال الأفريقي الأسود الذي هم بعضه. فحتى أولئك الذين تدافعوا للانخراط في الحركة الشعبية ليمثلوا «الشمالي الآخر» أخطأوا الطريق للجنوبي. فقد زاحموه وهدموا المسافة المستحقة له كآخر. وعبروا إليه لا عن طريق تزكية ثقافتهم العربية بل عن طريق التنصل عنها وتبخسيها كثقافة لا رجاء منها في التفتح وعناق الآخر.
ومن نواقص (ونواقض) هذا الحوار أنه جرى في وقت ساد فيه الإنترنت. وعلى ما في ذلك من ديمقراطية التعبير إلا أنه قد ينتهي إلى التشويش على المسائل حين تكون مواعين التبليغ التقليدية في الوسائط مثل الصحيفة والكتب والميديا مؤممة الرسالة أو فقيرة. فهذه الوسائط التقليدية لعبت دائماً دور الحارس للأجندة السياسة بمهنيتها في الاستقصاء بتصفية الثمين من الغث. وستظل تلعب هذا الدور. فمثلاً حين خرجت ذائعة تجدد الرق في الجنوب كتب ألكس دي وال كلمة قيمة في «اليسار الجديد» عن وجوب أن تتفادى الحركة الشعبية وأنصارها في المعارضة من تبني الذائعة لأنها متى ما طعن طاعن في أياً من حيثياتها وتلبدت صدقيتها خسرا قضيتهما التي لا تحتاج لها. وهذا بالضبط ما حدث. ولكن كانت الذائعة هي وقود الإنترنت لسنوات طويلة وشكلت ثقافة اتسخت بها علاقة الجنوب بالشمال إلى يومنا الراهن.
طرأت لي تبعة المثقف من زاوية غير ما اعتدنا من توبيخه بالفشل. وهو فشل طال، بل وُصِف بالإدمان، من جراء ذلك الطول. وبدا لي أن الصفوة الموصوفة بالفشل لا تمانع في ذلك الوصف. فهو حكم أخلاقي أعفاها من التفكير في مثالبها بصورة ناقدة ومقارنة. ووصفناه ب «الأخلاقي» لأنه ،خلافاً للحكم السياسي، لا يوطن هذا الفشل في اقتصاد سياسي معين، ولا تترتب عليه التزامات في الخروج منه. وقد يكفي في تبريره قول معمم من أنه «مغترب» أو «مسلوب» عن شعبه (وهي صفات محببة في مواضع) أو «محقور» من السياسيين. ثم تعود الكرة في يوم آخر.
وقفت عند مسألتين في «فشل» المثقف الموصوف. وهي مسائل زكت لي دائماً بيتاً من ت س إليوت: «لقد عشنا التجربة ولم نعرف معناها». والمسألتان هما فرط الموت الذي ضرج تجربتنا السياسية في فترة الاستقلال ومنعطف انفصال الجنوب. والمسألتان استحقا، متى أحسنا فهم معناهما، تحليلاً أو معالجة أفضل مما وقع لنا بفضل غيبة المثقف واستتباعه للسياسي بهمة.
مرت بلادنا بتجربة في الموت غير مسبوقة. فقتلى الجنوب في تقدير أقصى مليونان. وقتلى دارفور ينقصون عن المليون قليلاً في تقدير سائد. وخذ جبال النوبة. وغيرها. وصار الموت صناعة أروج من سائر الصناعات. وشاعت العسكرة في السياسة فققضت عليها. فالقتل في السياسة قتل للسياسة. فنشأت الكتائب. فروج الدفاع الشعبي لصناعته بقوله إنه احتسبت 18 ألف شهيد و 500 ألف جريح من 3 مليون مجاهد شاركوا في مسرح العمليات دعماً للقوات المسلحة. وانتقلت العدوى للمعارضين. وكشفت أعداد المسرحين بعد اتفاق نيفاشا في جنوب كردفان وحدها عِظم هذا التجييش. فسرحت الولاية 30924 فرداً من منتسبي القوات المسلحة والجيش الشعبي والدفاع الشعبي. وربما بالغت تلك المؤسسات في الأرقام لمنافع منتظرة ولكن يكفي أن الدولة ومعارضتها تستثمر في الموت هذا الاستثمار الكبير.
ولم تحرك هذه التجربة مع هذا الموت العصيب ساكن المثقف ليطبع الأمة على
استبشاعه. فالإنسان من بين كل خلائق الله الذي يتهيأ للموت واعياً بنهائيته. فهو يستعد له بالعناية بذريته في الميراث أو يطمع في الذكر الحسن والصدقة الجارية بفعل الخير. ومن فروض هذا الاستعداد أن يعبيء المثقف من بني الإنسان الضمائر والوجدان فوق شغل فكري وفني وإبداعي لتمج القتل المجاني في ظروف نملك حسن تصريفها. وبدلاً من هذا الشغل المر ساد فينا تفادي هذا الشغل المر وصيرورة الموتي شاهداً على بدائع صنائعنا النضالية. فصارت إحصائيات القتلي لا وعياً بالموت، الذي لم تكتمل به قصة حياة هؤلاء القتلى، التي ربما كانت مثيرة ، بل دليلاً على قسوة الخصم وعدالة القضية ممهورة بدم الشهيد. ناهيك عن المجاز الديني عن «عرس الشهيد» الذي باخ في خشم سيدو. وفي الحالين كان الشهيد مفردة مجردة فلا هو أب (أو أم)، ولا أخ، ولا زوج، ولا صديق، ولا جار، ولا رئيس، ولا مرؤوس إلى آخره. كان رقماً لا حياة قضت نحبها قبل أن تكتمل. ولا زالت قوانا السياسية لم تفطم من صناعة الموت تقول هل من مزيد من القتلى للقضية لأت المثقف لم يجعلهم يخجلون من هذا الإسراف بالثقافة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.