تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزمة الوطنية: عشنا التجربة، غاب المعنى .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 18 - 01 - 2013

بالنظر إلى جو الاحتقان الذي يسمم الساحة السياسية أنشر كلمة افتتاحية لي في لقاء الدوحة التفاكري الذي انعقد في مايو من العام الماضي. وعرضت فيها موقفاً آخراً لفض النزاع السوداني قائماً على وجوب المساومة التاريخية من الأطراف المحتقنة التي يظن كل منها أنه الفرقة الناجية . ولأن الأطراف المتشاكسة عسكرية فلا حدود لأوهامها بأنها الناجية والظافرة أبداً. أردنا بالمؤتمر التشاوري ترجيح طريق قصير لمحبة السودان. وهو طريق لا مهرب منه لأنه الرشد: "أليس بينكم رشيد". ونأمل أن نعود إلى هذا الطريق بعد التهارش الموسمي بين المسلحين على الضفتين.
وكلهم يدرك أنهم على شفا جرف هار ولكن ليس بينهم من استدبره
الأزمة الوطنية: عشنا التجربة، غاب المعنى
اللقاء التفاكري حول الأزمة الوطنية في السودان- (26-27 مايو 2012م)
برعاية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (معهد الدوحةالدوحة، قطر
عبد الله علي إبراهيم
لا نطمع من لقائنا هذا للتفكر حول الأزمة الوطنية العثور على وصفة سحرية لها. كان من سبقنا أشطر. وليس سوء ظننا بوقوعنا على تلك الوصفة خيبة أمل وإنما هي واقعية لا مهرب منها. بل لن تصدقنا الجمهرة في السودان، من فرط توالى الوصفات وتهافتها، زعمنا أن في محصلة لقائنا المخرج الأكيد من هذه الأزمة. ومع توافر سانحات الحل ومواثيقه ودورانها في خطاب المصالحة إلا أن القوى السياسية لم تبلغ بها الغاية. وهذا التوافر لحل ترسى به البلد على شط الأمان ومفرداته مما يبعث على التفاؤل بدنو نهاية أحزاننا. فقد قيل ليس من قوة تعدل قوة فكرة أزف وقتها. فالاختراق، أي النفاذ إلى غاية مرغوبة مرجوة، يقع حين يلتقي فجأة ما أصبح ممكناً بما هو ضروري ضربة لازب.
قد نعجز عن إحصاء المرات التي نصحنا فيه العالم من حولنا بحاجة صفوة الحكم للإرادة السياسية لتجاوز عقابيل أزمتنا الوطنية الغليظة. والإرادة السياسية ليست "جمبازا" في الحسم والقطع. إنها ثقافة. فهي عزيمة مفكرة واثقة رابطة الجأش تعتبر قرارها على ضوء علم دقيق بتوازن القوى، بملكات الآخرين ورغائبهم، وبالتنزل المبدئي عندها، دون تغييب للمرامي البعيدة. وهي لا تقع لمن لا يحسن الحديث لغير ثوابتها، والنواة من تابعيته، ولا يملك شجاعة قيادتهم في طرق لم يألفوها ويستوحشوها. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في حلف الحديبية. فلم يقبل فيه بأذى الخصم بمقتضى الظرف فحسب بل حمل النصير حملاً على المساومة. وقد أزعجني دائماً استعلاء بعض المعارضين عن المساومة عملاً بقول الشاعر أمل دنقل "لا تساوم". وقلت لهم هذا حديث شعراء عن إقليم شغاف الروح وأشواقها. والمساومة فيه وجودية وارتكابها خيانة. ولا أعتقد أن الشاعر قصد التكتيك في الممارسة السياسية التي تجيز تلك المساومة من غير ابتذال. فأنتم أدرى بأمور سياستكم. وأسعدني أن الشفيع خضر صدّر كلمة أخيرة له بقول إنجلز: "لا للمساومة! إنها سذاحة أن يجعل المرء من جزعه الشخصي برهاناً نظرياً".
تري هذه الورقة أن مكمن فشلنا المشاهد في الممارسة الحاكمة أو المعارضة أننا لم نحسن تشخيص الحالة السودانية. فقد افترضت الأطراف أن ثمة فرقة ناجية بعد عقود من الحكم الوطني لم نستثمر فيه الإرادة الوطنية المستعادة بوجه صحيح. فما نزال نعتقد أنه بوسعنا مواصلة لعبة معارضة-حكومة. وقلَّ من اعترف بأن الناس جربت أطراف النزاع السياسي في الحكم والسياسة وما بينهما ولها سوء ظن معتبر في رهن مستقبلهم بأيهم. وهو ما سماه الراحل محمد إبراهيم نقد ب"توازن الضعف". وهذا الضعف عرض من أعراض إرهاق النادي السياسي ألمح ألكس دي وال إلى مظهرين منه:1) الشيخوخة الباكرة وغير الباكرة لرموزه حتى بين الحركات المسلحة، 2) خلو الساحة من أي فكرة جديدة ملهمة بعد أن جرب السودان الأفكار الأكابر كلها (يمين ويسار وهامش) فتهاوت وسدت خرائبها الطريق نحو أفكار ملهمة جديدة. ولم يتبق للصفوة من تلك الصغائر سوى "الثوابت".
فالوهن ضارب أطنابه بين أهل الحل والعقد السياسي. فالحكومة تكرر نفسها لأنها لم تعد قادرة علي ابتكار الحلول كما قال ناشط من شرق السودان. فقد بددت مختارة السانحة حتى حين جاءتها على طبق لتوحيد كثير من الناس على صعيد الوطنية بعد هجليج بما لقيه الجيش (والحكومة وكالة لا أصالة) من تأييد لم يحظ بمثله منذ عقود. فطغت مشاكلها الأسرية وعطلت التفكير. فكان النبأ الأروج في أعقاب هجليج هو نزاعات وزراء وموظفين ومفاسد مَيَّزها رأس النظام بالحسم دون سواها. وظلت الحكومة ورموزها يتحدثون إلى نواتهم في الدوائر الدينية القصية والجهادية دون الآخرين. بل كان بعض الآخرين موضوعاً لتفتيش الضمير إن كانوا وقفوا مع الجيش حقاً أو مخاتلة. وأنهى الجيش توقع المواطنين في أن يكون لهم حق مساءلة ولاته بأن قال إن كبوة مثل هجليج واردة في أصول الحرب والسؤال عنها في غير محله. بل صارت الحلول غير الحلول. فشكاو السلطة الإقليمية في دارفور، وليدة اتفاق الدوحة، من بؤس موالاة الاتفاق عليها كادت تيئس الناس منه. وما يزيد الطين بلة أن ليس للحكومة حلولاً فحسب بل وليس لها اقتصاداً للحلول متى وقعت عليها . فألحفت السلطة الإقليمية في دارفور ألا تُعَد "مصلحة حكومية" عادية لأن الأوضاع التي تعالجها حاقنة ومتفجرة.
وألم بالمعارضة ضعف أليم جنحت إلى الاعتراف به أخيراً. ومن مظاهر هذا الوهن انعقاد 3 مؤتمرات متزامنة لحزب الأمة دفعة واحدة. وهو ضعف أزهد بعض أطراف المعارضة في الحلول تحت هذا النظام فأختارت حرب التحرير التي قل أن اعتبرت المعارضة السلمية إن لم تكن قد عدتها لا شيء. وبعضها دعا إلى إسقاط الحكومة مثل الشيوعي والشعبي ثم تراجع عن هذا الخط الذي طرأ لها في ساعة غضب. وعادت للتعامل مع حلوله البائرة باحتجاج شديد. من جهة أخرى حدا الوهن بالبعض مثل الاتحادي الديمقراطي لولوج بيت الخصم على مبدأ إن لم تصرعه فساكنه.
من جهة أخرى بات واضحاً حاجتنا إلى معارضة تتعاطى مع جمهرة الناس وبمسرب أعمق من مجرد التظاهرات. وحتى في هذا الباب صارت عبارة نقد "حضرنا ولم نجدكم"، حتى لو لم يقلها، مجازاً في انقطاع المعارضة عن جسد الأمة الحي. فصارت قوة الشعب قاصرة على تهديد المعارضة للحكومة بها في مثل :"سننزل إلى الشارع" في ملابسات الربيع العربي. وتصدر الحكومة من الجهة الأخرى شهادات براءة من السقوط عبر هبة شعبية. وتهزأ الحكومة من دعوة تحريك الشارع بأن المعارضة معزولة عنه مرة وبأنها قد أعدت لها وللشارع أنكالاً وسعيرا متى ما جروءت.
وهذا التنابذ بالشارع يتم في وقت لم يتوقف الشارع نفسه عن التعبير عن معارضته الغريزية للظلم. ربما لم تنضج معارضته في ربيع عربي. وهذا ليس مهماً إذا لم نعتقد في الرجم السياسي. فلا يكاد يمر يوم إلا وللشارع وقفة احتجاج حول معنى معارض قديم أو مبتكر. فوقفات الضيق بانقطاع الخدمات، إذا اقتصرنا على ولاية الخرطوم، في بري والباقير وبيت المال وغيرها معروفة. ونشأت حركات لحماية البيئة أوسع من ما تعرفنا عليه من حماية الوحش. وكان لسكان أحياء ود دفيعة بالحاج يوسف وغيرها مطالب بالهواء النقي والحماية من الهوام وتلوث المياه. زد على ذلك الأحياء وشبابها الذين خرجوا لصد تغول المستثمرين على ساحات الرياضة ورئات تنفس أحيائهم. وما تزال مقاومة عمال البحر في بورتسودان ضد غول التكنولجيا الجائر مستمرة. وهذه الوقفات هي بشائر الربيع العربي لمن اعتبر بحاضنات ثورة مصر الباكرة.
غاية ما نطمع فيه من وراء لقائنا هذا أن نجدد قنوات الحوار الوطني حول صورة الوطن ليقوم على معرفة ويثقف الإرادة السياسية فتنجدنا من إحننا وشتاتتنا وثوابتنا. وقد تكرر إغلاق تلك القنوات بترسانة قوانين كبلت بها الحكومات الديكتاتورية حرية التعبير وأكملت دولة الإنقاذ الناقصة. ومما أبطل الحوار قولاً واحداً عسكرة "السياسة" والدولة حتى النخاع ولنصف قرن من الزمان. فمكّن النزاع حول الحكم بواسطة السلاح لعسكرة السياسة عندنا على ضفة الدولة والمعارضة. وصار للجيش أمة بدلاً عن العكس. فنصرف في تقدير متواضع 75% من ميزانيتنا على القوات المسلحة. وهذا ما وصفه أحدهم بأنك مثل من يمرن عضلة واحدة في جسمك وتترك ما عداها. ودفعت الخشية الجيش من حجب العالم السلاح عنه إلى التوسع في الصناعات الحربية وما تفرع من ذلك من دخول كبير في السوق بالشركات والبنوك والتأمين. ولما لم تعد للجيش أمة جنح نحو الاحترافية المغلظة كعقيدة قتالية ومكافآتها اوامتيازاتها التي لم تعد تخفى.
هذه الأغلال لا ريب هي جوهر تعثر الحوار الوطني. ولكن اكتنفت العمل السياسي والفكري بشكل عام أدواء ذاتية حالت دون استثمار هامش الحريات المزعوم أو المعارضة كمؤسسة سياسية قائمة على رؤية، أي على ثقافة. فأدنته إلى التسييس وباعدت بينه وبين الثقافة. وقد أجاد مامون التلب وصف تلك الملابسات بقوله إن فقر الساحة الثقافية المتمثل في خلوها من المنابر (المجلة، المنابر المستقلة، الجمعيات الإبداعية والعلمية جيدة المهنية) ساقت المثقف لأقصر الطرق للجمهور وهو الجمهور السياسي الجاهز بشروطه المعطلة للاجتهاد في ثوابت الجماعة المعينة والتربص بثوابت غيرها.
تتجلى قلة حيلة المثقف الذي تجرد من المنابر في حيرته مع الرأي. فبدلاً من بثه بين الجمهور ليأخذ به في طريق تكوين رأي عام حول أجندة التغيير نجده إئتمن الحكومة عليه في صورة "نصيحة" يأمل أن تعمل به. ولذا كان أكثر أبيات الشعر العربي دوراناً في خاتمة تلك الآراء-النصائح هو :نصحتهم نصحي. بل تجد من بين عتاة المعارضين المنادين بالإطاحة بالحكومة من يعرض في آخر اليوم خدماته على الحكومة لفض هذه المشكلة أو تلك لما له من دالة على الجهات المحاربة. وصحب اضطراب البلد وضمور الحريات المضطرد تلاشي أدوات المثقف (الجمعية العلمية) أو تدجيناها (النقابات المهنية). وأصاب العطب وظيفة الجامعة، كمؤسسة، كحاضن لكل تلك الإمكانيات. ووقع على الدراسات السودانية إضعاف مزدوج. فلم تعد الجامعات مستطيعة تمويل البحث العلمي وفي العلوم الاجتماعية والإنسانيات خاصة. كما ضمرت المكتبات، بل نشأت جامعات بغير كبير اعتبار للمكتبة الحرفية أو الرقمية. وتقطعت أسباب الجامعة بالأكاديمية الغربية نظرأ للمقاطعة. فأكتنفتنا محلية غير جائزة في معيار الأكاديمية بخاصة بعد تفريطنا في اللغة الإنجليزية كلغة اتصال عالمي في نوبة إيدلوجية. وزاد الطين بلة أن اضطراب البلد وعزلتها وحربها طبع ما تبقي من اهتمام أكاديمي غربي بطابع"الناشطية" يؤيد الواحد فريقاً دون فريق في النزاع. وضمر الأدب الدراسي عن السودان (أقله في الولايات المتحدة) غير أدب الناشطية حتى قال أحدهم أنه غلبت أكاديمة القضية والناشطين عن الرق والطهور الفرعوني والجنجويد على أكاديمية الدراسات المحيطة التي تأخذ كل ذلك تحت جناحها. وظلت المعرفة بالسودان وظيفة للبحث كاكتشاف (أكثره اكتشاف عاهات) وانحرمنا من ال Scholarship التي هي الاكتشاف ثم تأليف أو تركيب الاكتشافات في معنى مفيد.
وبهذه العزلة المركبة عن الأكاديمية الغربية فاتنا الأخذ بنظريات مستجدة منذ الثمانينات شحذت الفكر النقدي وثقفته من مثل الاستشراق أو ما بعد الاستعمار أو الحداثة أو البنائية والقومية أو الإثنية أو الأدائية أو ابتناء المعرفة. وما فاقم من خسارتنا بذلك الفوت أن قضايانا المصيرية (الهوية، الحركة القومية، الإثنية) هجمت علينا خلال نفس المدة فوجدتنا عزلاء من نظر الفكر النقدي المستحدث وأدواته فلم نحاجج فيها بعلم فأنتهت إلى تسييس دارج.
فتجدنا عالجنا مسألة الحركة القومية بغير بصر بالنظريات المستجدة في ميدانها. فجرى الاتفاق بين أفضلنا على أن أن مشكلة السودان في النخبة النيلية التي فرضت هوية مصطنعة للسودان بحكم استئثارها بالسلطان والثروة. ويعنون بالصفوة النيلية كل من انتسب لها عرقاً وارضاَ. وهذا تحليل نظر إلى الحركة الوطنية ككل جامع مانع وأخلاها من الأطراف التي تكونت منها فتحالفت واختلفت وتنازعت. فالدراسات المعاصرة ترى الحركة الوطنية بؤراً وحَّدها العدو الاستعماري ولكنها اختلفت لا في ما سيكون عليه الوطن المستقل بل في تكتيكاتها في حرب المستعمر. وسيصح قول القائلين بأن النخبة الشمالية اصطنعت هوية عربية إسلامية وألبستها وطناً أوسع منها متى أنصرف قولها إلى وطنية مؤتمر الخريجين. وهي وطنية لم تخف اصطناعها لتلك الهوية في وثائقها البرنامجية في الثلاثينات. ولكن كان إلى جانب هذه الوطنية حركات وطنية للعمال والطلاب والمزارعين والمرأة وللشيوعيين والجمهوريين والجماعات القومية مثل الجنوب والبجا خاصة. بل كانت الحركة العمالية منذ 1948 سيدة المبادرة. وتخيلت الوطن معترفة بتنوعه الثقافي والإثني والتاريخي.
فلو اهتدينا بالنظرية التي اتفقت لمدرسة ما بعد الاستعمار فنحلل "وطنيات" شمالية تعددت لا "وطنية" شمالية جامعة لما ران على كثير من الشماليين الشعور بالتطفيف حين وجدوا أنفسهم محشورين في حركة وطنية ربما صارعوها هم بأكثر من صراع الهامش لها. فلو جئنا للجد فالدولة الدينية لم تبدأ بالجنوب وإنما بالخرطوم في أعقاب أكتوبر. ووقف شماليون كثر في "الجبهة القومية للدفاع عن الديمقراطية" للدفاع عن شرعية الحزب الشيوعي وضد مشروع دستور 1968 الإسلامي الذي احتكر الوطنية وتوصيف المواطنة ومن يستحقها ومن تسقط عنه لهرطقته. بل كانت بعض دواع انقلاب 25 مايو 1969، على علاته، تعطيل البرلمان والحكومة التي أجازت ذلك الدستور. وجاء عن قادته قولتهم إنه دستور لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب به.
وإذا تجاوزنا الاستثناءات أعلاه لعمومية القول عن صفوة عربية إسلامية كرَّهت في وطن متنوع نقول إن الجنوب كان بصورة عامة عظمة نزاع بين الفرق العربية الإسلامية السياسية لم تحفظ لأوجاعه التاريخية تلك المسافة الواجبة لكي تصونه كآخر من الدمج البسيط في مشروعها السلطاني حاكمة أو في أجندة مظالمها معارضة. فنجد قوى المعارضة مثلاً استفزها تحالف النميري مع القوميين الجنوبيين في 1972 فكادت له بظن السوء في اتفاقية أديس أبابا كما هو معروف. فلم تنم ذوقاً للجنوب أو شغفاً به يتجاوز "التسيس" المرتجل لمسألته. وكان من شأن هذا الشغف والذوق أن يزكيا لهم تجديد ثقافتهم العربية الإسلامية لتتعافى من ضروب حزازاتها التاريخية حيال الأفريقي الأسود الذي هم بعضه. فحتى أولئك الذين تدافعوا للانخراط في الحركة الشعبية ليمثلوا "الشمالي الآخر" أخطأوا الطريق للجنوبي. فقد زاحموه وهدموا المسافة المستحقة له كآخر. وعبروا إليه لا عن طريق تزكية ثقافتهم العربية بل عن طريق التنصل عنها وتبخسيها كثقافة لا رجاء منها في التفتح وعناق الآخر.
ومن نواقص (ونواقض) هذا الحوار أنه جرى في وقت ساد فيه الإنترنت. وعلى ما في ذلك من ديمقراطية التعبير إلا أنه قد ينتهي إلى التشويش على المسائل حين تكون مواعين التبليغ التقليدية في الوسائط مثل الصحيفة والكتب والميديا مؤممة الرسالة أو فقيرة. فهذه الوسائط التقليدية لعبت دائماً دور الحارس للأجندة السياسة بمهنيتها في الاستقصاء بتصفية الثمين من الغث. وستظل تلعب هذا الدور. فمثلاً حين خرجت ذائعة تجدد الرق في الجنوب كتب ألكس دي وال كلمة قيمة في "اليسار الجديد" عن وجوب أن تتفادى الحركة الشعبية وأنصارها في المعارضة من تبني الذائعة لأنها متى ما طعن طاعن في أياً من حيثياتها وتلبدت صدقيتها خسرا قضيتهما التي لا تحتاج لها. وهذا بالضبط ما حدث. ولكن كانت الذائعة هي وقود الإنترنت لسنوات طويلة وشكلت ثقافة اتسخت بها علاقة الجنوب بالشمال إلى يومنا الراهن.
طرأت لي تبعة المثقف من زاوية غير ما اعتدنا من توبيخه بالفشل. وهو فشل طال، بل وُصِف بالإدمان، من جراء ذلك الطول. وبدا لي أن الصفوة الموصوفة بالفشل لا تمانع في ذلك الوصف. فهو حكم أخلاقي أعفاها من التفكير في مثالبها بصورة ناقدة ومقارنة. ووصفناه ب "الأخلاقي" لأنه ،خلافاً للحكم السياسي، لا يوطن هذا الفشل في اقتصاد سياسي معين، ولا تترتب عليه التزامات في الخروج منه. وقد يكفي في تبريره قول معمم من أنه "مغترب" أو "مسلوب" عن شعبه (وهي صفات محببة في مواضع) أو "محقور" من السياسيين. ثم تعود الكرة في يوم آخر.
وقفت عند مسألتين في "فشل" المثقف الموصوف. وهي مسائل زكت لي دائماً بيتاً من ت س إليوت: "لقد عشنا التجربة ولم نعرف معناها". والمسألتان هما فرط الموت الذي ضرج تجربتنا السياسية في فترة الاستقلال ومنعطف انفصال الجنوب. والمسألتان استحقا، متى أحسنا فهم معناهما، تحليلاً أو معالجة أفضل مما وقع لنا بفضل غيبة المثقف واستتباعه للسياسي بهمة.
مرت بلادنا بتجربة في الموت غير مسبوقة. فقتلى الجنوب في تقدير أقصى مليونان. وقتلى دارفور ينقصون عن المليون قليلاً في تقدير سائد. وخذ جبال النوبة. وغيرها. وصار الموت صناعة أروج من سائر الصناعات. وشاعت العسكرة في السياسة فققضت عليها. فالقتل في السياسة قتل للسياسة. فنشأت الكتائب. فروج الدفاع الشعبي لصناعته بقوله إنه احتسبت 18 ألف شهيد و 500 ألف جريح من 3 مليون مجاهد شاركوا في مسرح العمليات دعماً للقوات المسلحة. وانتقلت العدوى للمعارضين. وكشفت أعداد المسرحين بعد اتفاق نيفاشا في جنوب كردفان وحدها عِظم هذا التجييش. فسرحت الولاية 30924 فرداً من منتسبي القوات المسلحة والجيش الشعبي والدفاع الشعبي. وربما بالغت تلك المؤسسات في الأرقام لمنافع منتظرة ولكن يكفي أن الدولة ومعارضتها تستثمر في الموت هذا الاستثمار الكبير.
ولم تحرك هذه التجربة مع هذا الموت العصيب ساكن المثقف ليطبع الأمة على
استبشاعه. فالإنسان من بين كل خلائق الله الذي يتهيأ للموت واعياً بنهائيته. فهو يستعد له بالعناية بذريته في الميراث أو يطمع في الذكر الحسن والصدقة الجارية بفعل الخير. ومن فروض هذا الاستعداد أن يعبيء المثقف من بني الإنسان الضمائر والوجدان فوق شغل فكري وفني وإبداعي لتمج القتل المجاني في ظروف نملك حسن تصريفها. وبدلاً من هذا الشغل المر ساد فينا تفادي هذا الشغل المر وصيرورة الموتي شاهداً على بدائع صنائعنا النضالية. فصارت إحصائيات القتلي لا وعياً بالموت، الذي لم تكتمل به قصة حياة هؤلاء القتلى، التي ربما كانت مثيرة ، بل دليلاً على قسوة الخصم وعدالة القضية ممهورة بدم الشهيد. ناهيك عن المجاز الديني عن "عرس الشهيد" الذي باخ في خشم سيدو. وفي الحالين كان الشهيد مفردة مجردة فلا هو أب (أو أم)، ولا أخ، ولا زوج، ولا صديق، ولا جار، ولا رئيس، ولا مرؤوس إلى آخره. كان رقماً لا حياة قضت نحبها قبل أن تكتمل. ولا زالت قوانا السياسية لم تفطم من صناعة الموت تقول هل من مزيد من القتلى للقضية لأت المثقف لم يجعلهم يخجلون من هذا الإسراف بالثقافة.
وقفت في النظر المقارن إلى كيف خرجت أمريكا الحديثة من حقول موتى الحرب الأهلية (1880-1865) بكتاب ذكي للمؤرخة درو قبلين فاوست عنوانه "جمهورية العذابات هذه" (2009). وحرب أمريكا تلك حرب اشد فظاعة من كل حرب. مات فيها 620 ألف وهم 6 مليون أمريكي متى وقعت تلك الحرب اليوم. وهذا الإسراف في القتل ما سماه كاتب "بحصاد الموت". وهو موت مستجد غير ما اعتادت عليه أمريكا ما قبل الحرب: موت ذهب بأولئك الذين في صباح العمر. وخلق ما أسماه كاتب"جمهورية العذابات". فجيل الحرب عاش ملمس وأهوال الموت الذي اتحد بالدولة. وفي نهاية تلك التجربة العصيبة تأخرت المعاني مثل العرق والمواطنة والأمة التي اقتتل الفريقان حولها لتفسح المكان لمعني التضحية وتخليد فدائية الموتي كأساس لوحدة الشمال والجنوب.
نظر الكتاب في كيف صارت الولايات المتحدة بفضل الحرب الأهلية مجتمعاً آخراً وثقافة مختلفة. فالزوجات صرن أرامل والأبناء يتامى وقتل الأمريكي الأسود وقُتل من أجل كسر ربقة الرق. ومع ذلك فخطر تلك الحرب الأمريكيين أشد من تقسيم الأمة أو إنهاء الرق أو كسب الحرب التي تطرأ على الذهن متى ذكرنا تلك الحرب. لقد استبد بالأمريكيين ما هو أكثر زلزلة وهو كيف ينبغي للحياة أن تنتهي. فقد صار عليهم أن يكملوا سرديات حياة موتى الحرب غير التامة أو الناقصة ويضمنوها المغازي التي أرادوها. كان عليهم أن يُعَينوا الوسائل والآليات ويتفننوا فيها لإدارة شأن أكثر من نصف مليون ضحية أخرس الموت بقية سردهم. فلم يعودوا آباء وإخوانا وأبناء بل جثامين كثيرها بغير مثو أخير معروف يزار. وصار الموتى بفعل التوقير والتذكير هم من أراد له لهم الأحياء أن يكونوا. وصار تعريف الأحياء أنهم من انحصر معنى الحياة عندهم، بعد مشهد الموت الكثيف، في مجرد ألا تموت.
وأكثر هذه الشفافية للنظر الأمريكي للموت والحياة من شغل مثقفي الأمة الأمريكية مثل هيرمان مليفيل وفردريك جونسون وأمبروز بيرس وولت ويتمان المعروف. فنظروا لأبعد من الموت. نظروا إلى حياة الأمة التي لم تعد هي كما تعارفوا عليها قبل شيوع ذلك التفاني في الحرب. خرج أولئك المثقفن لإبراء الجرح الوطني النازف. فوصف أمبروز بيرس قتلى الحرب من الجانبين ب"الموتى الأبرياء" في الرد على فردريك جونسون، المفكر الأفريقي الأمريكي، الذي تمسك بالثابت وهو أنه قد ينسى كل شيء آخر إلا خطر الخلاف بين من مات على جانب الحرية ومن مات على جانب العبودية. ولذا قال ويتمان:
الموتي، الموتي موتانا، أو الجنوب أو الشمال، كلهم مننا (كلهم كلهم كلهم) أعزاء عندي في خاتمة المطاف".
وأطلقت الحرب نقد الدين من عقاله بفضل لوحات ماثيو برادي التي حفلت برسم الجثث المزق. فلما رأى الناس تشتت الجسد وذهاب ريحه تساءلوا إن كان المعاد والبعث، الذي تلقوه عن المسيحية، مما يصدق بيسر. فقد جاءهم ماثيو بصور للجسد الشتات بدلاً عن الجسد المجتمع على قوام مؤكد. وقالوا إن ماثيو إذا لم يأتنا بالأجساد وألقاها أمام عتبات بيوتنا وعلى قارعة الطريق فقد فعل بفنه شيئاً قريباً من ذلك.
وأدهشني ويتمان الذي عرفنا ثوريته وإنسانيته ولم نعرف مصدراً مهماً لهما. لقد كان الشاعر حاضراً متى طاف طائف الموت بالمستشفى العسكري بواشنطون. فهو جاء يوماً يسأل عن أخيه جورج بعد نبأ إصابته في الحرب. ولم تكن الإصابة بالغة. ولكنه لم يترك المستشفى من يومها حاضراً عند "خراج روح" قتلى أمريكا الفدرالية بقيادة جورج واشنطون التي كان يعتقد بعقيدتها في تحرير الرقيق. كان ذلك الحضور ما أملاه على ويتمان محبته لأخيه وعنايته به. لم يكن طبيباً بل كان شغله عزائياً للمواساة. كان يُقسم على المرضى ما يقع بيده من الأرز باللبن، وقليلاً من المال، وظروفاً عليها الطوابع لمن رغب في الكتابة لأهله، والفاكهة، والملابس الداخلية، والجوارب، والصابون، والمناشف، والحلوى. وجعل شغله الكتابة لأهل الجرحى نيابة عنهم وإن حرص على تشجيع من يحسن الكتابة ان يفعل حفظاً ل الأسري. فكتب ويتمان مئات الخطابات بواقع 12 في اليوم. كتب مثلاً لأسرة ما عن موت أبنها بعاطفة وشجاعة قائلاً:
كان على أتم عزيمة للموت. كان متوكلاً للحد البعيد. أنا لا أعرف عن حياته قبل الموت شيئاً ولكني أشعر أنه عاش حياة جميلة ومشبعة". ولم يكن ويتمان متديناً بمعنى ولكنه ضمّن رسائله لأهل الميت آيات الإنجيل لأنها، طالما آمنوا هم، لا هو، بقضاء الله وقدره، روضتهم على قبول ما ليس له بد. وجاء في ديوانه بعض هذه التغذية المسيحية مثل قصيدة يتصور نزول الخبر الفادح على أسرة في فيافي ولاية أوهايو.
ودخل الموت الفادح للحرب الأهلية في إدارة الدولة. فتوسع نظامها الفدرالي (على حساب الولائي) ليعني بالمقابر القومية ومعاشات الضحايا وقدامى المحاربين. وبفضل الحرب الأهلية ما تزال جثة كل من مات محارباً في سبيل أمريكا في ذمة الدولة حتى تستعيد جثته متى خفيت. ولهم في ذلك إدارات مستقرة تقضي العمر تبحث عن الموتى بلا أكفان.
لا غلاط أننا توصلنا طواعية، وبعد لأي، لحق تقرير المصير للجنوب ثم استهولنا نتيجته وصار عيباً وعاراً يلاحق من قام به إلى الأبد. فلما لم يستظل الحق بالثقافة صار عظمة نزاع بين السياسيين وصار مغزاه فوضى او خيانة أو خذلاناً بدلاً عن ممارسة لحرية أجمعنا عليها. وهذه اللجلجة مضرب المثل في التنصل عن معنى التجربة.
ولعل أظهر مظاهر هذا غيبة المعنى عن التاريخ فشو التلاوم حول من فصل الجنوب. بالطبع وزر الحكومة فاضح فقد وقع خلال نبطشيتها وفي ظروف دولية وإقليمية ووطنية رشحت سبيلاً غير الانفصال لإعادة ترتيب البيت السوداني. ولكن لا يحتاج المرء لأكثر من الاستماع للصوت الجنوبي، الذي لم نكترث له، والذي لا يفرق في مسألته بين القائم بالأمر من صفوة السياسة العربية الإسلامية، أو من قاموا به في الماضي، أو من يزعم القيام به في المستقبل. فكلهم سواء في نظر الجنوب في فساد طرائقهم لإدارة التنوع. بل ربما سمعنا القائل منهم إن الإنقاذ، مهما قلنا من سيئاتها، هي التي أوفت دون الآخرين بميثاقها معهم.
ومن المؤسف أن ننحدر بمبدأ عظيم في الحرية إلى هذا الدرك. فنشأ المبدأ كما هو معلوم في أفئدة عظيمة. دعا له الرئيس ودرو ويلسون وفلاديمير إيلتش لينين وألهم حركة التحرر الوطني في المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية. ولكنه أٌهمل وسقط في شقوق السياسات القومية الطماعة المتسلطة في دولة ما بعد الاستعمار. فقررت منظمة الوحدة الأفريقية نهاية حق تقرير المصير بتحرر المستعمرات من القوى الأوربية التي حكمتها. وصارت حدود تلك الأوطان الجديدة مقدسة. ولذا استهجنت المنظمة انفصال بيافرا عن نيجريا واصطّفت مع الحكومة النيجيرية لرد بيافرا إلى صوابها حتى نجحت. من جهة أخرى لم تجد حركة إنفصاليّ جنوب السودان أذناً صاغية في المنظمة وإن ساندتهم دول بعينها منها.
وهذا المعيار المزدوج للمنظمة الأفريقية حيال مبدأ تقرير المصير أصيل فيه. فقد اختلط أمر الناس خلال عرض المبدأ الويلسني في مفاوضات سلام فيرسايل في فرنسا (1919): "فلم يقع لأي من المفاوضين انطباق المبدأ على إمبراطوريته بالذات في حين انطبق على الإمبراطورية التي سحقها". ونبه سوداني جنوبي إلى مناصرة المسلمين حق ألبان كوسفو في الانفصال عن صربيا بينما يتجهمون في وجه نفس المطلب لجنوبيّ السودان.
لم يستو مبدأ تقرير المصير فينا لأن صفوتنا نظرت إليه كممارسة "حلال" في التسييس و"حرام" في السياسة. وكرهه الناس كما يكرهون الطلاق في الزواج. والحق أن مجاز الزواج قديم قدم المبدأ. فقال لينين إنه لا يتبغي الربط بين الوقوف مع المبدأ وتشجيع انفصال القوميات. لأن مثل هذا الفهم سيكون سخيفاً ومنافقاً مثل ربط الداعين إلى بسط حق الطلاق للزوجين بتشجيع تحلل الأسر. ويكثر الطلاق كمجاز في فهم حق تقرير المصير في الخطاب السوداني الذي غلبت فيه الآية القرانية (أمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف (2:231)
لو كان مثقفنا يأخذ ذمته الفكرية بجد واستقلال وكدح لما جعل الانفصال، المترتب على حق تقرير المصير، مذمة وموضوعاً للتلاوم. والنظر المقارن من أوجب وجوه الذمة الفكرية للمثقف. فقد مر زمن على الإنسانية كان فيه انفراط دولة ناشزة سمة للعقل والشجاعة. وقد أطرى ألكس توكفيل، مؤلف كتاب "الديمقراطية في أمريكا" (1835)، أمريكا لتلك المأثرة. فلم ينفعل ببسالة الأمريكيين المعروفة في تحرير بلدهم من البريطانيين في 1778 بقدر انفعاله بإعادتهم التفاوض في مصائر وطنهم الذي تفرق شيعاً في المؤتمر الدستوري بفلادلفيا عام 1786 والذي بنوا فيه "اتحاداً ناجزاً". ولم ينتاب السودانيين حظ الأمريكيين بالحصول على توكفيل"هم" ليثني على بعد نظرهم السياسي. خلافاً ذلك وطأهم الناس بمنسم وعيروهم كشعب فاشل. ومن أسف أن الناعين ردوا هذا الفشل إلى شذوذ ثقافي لم تأتلف به العروبة والأفريقية أو الاسلام والمسيحية (والعقائد التقليدية) في البلد. ومع أن هذه الحقائق الثقافية غير منكورة الأثر في المسألة السودانية إلا انها الزبد لا الجوهر. فأصل الإشكال وديناميكيته في فشل الحركة الوطنية الوارثة للاستعمار في ترتيب وطن يسعد قوميات الأمة وجماعاتها قاطبة. وهو فشل يتساوى السودان فيه مع سائر أمم لمستعمرات السابقة.
من تصفح تاريخ سودان ما بعد الاستعمار سيعرف لماذا كنا في السودان البادئين بمخاطرة تقرير المصير. فالسودان اشتغل بعملية تصفية الاستعمار كما لم تنشغل دولة أخرى به. ولهذا التاريخ قسمات ثلاث: 1- صفوة وطنية تغاضت عن التنوع العرقي والثقافي في الأمة الوليدة كما مر وتمسكت بحرفية الوطنية في توحيد الشعوب والقبائل على حد ثقافتها هي لا غيرها. أو ما عرف ب "البوتقة". وصدف أن كانت هذه البوتقة هي العروبة والإسلامية. وستجد الصفوة الوطنية الوريثة للاستعمار على غرارها في كينيا وساحل العاج قد فرضت ثقافاتها هي دون غيرها فأسقمت أهلها. ولكن صفوتنا دون غيرها شقية حال لأنها كانت أضعف من فرض هيمنتها بالقوة (hegemony ) على الآخرين أو بتسويغ تلك الهيمنة كأمر واقع بالتراضى مع الآخرين هيمنتها (consent).. وبلغت هذه الصفوة الوطنية الباكرة من الضعف حداً انتزع منها العسكريون والقوميون الدينيون مقاليد الأمور بعد عامين من الاستقلال ولمدة 43 من عمره البالغ 54 عاماً. 2- صفوات قومية على هامش المستعمرة السابقة لم تكف عن طلب مواطنة كاملة كمستحق من مستحقات تصفية الدولة الاستعمارية وبشرى الاستقلال. فقد "تمردت" صفوة جنوبية بتنسيق مع الفرقة الجنوبية في توريت بالجنوب عام 1955 قبل استقلالنا بعام واحد. ثم توالت يقظة قوميات الهامش. فكون البجا مؤتمرهم في 1957 ثم جاء النوبة باتحاد جبال النوبة في مفتتح الستينات وظهر تنظيم نهضة دارفور في 1964. ونادت هذه الصفوات جميعاً بمواطنة أبعد نجعة مما وفرته صفوة الشمال القابضة من جهة تحويل الرعايا إلى مواطنين. 3-حركة وطنية ديمراطية جماهيرية كانت كالمضيف لحركات صفوة الهامش وصوتها الناطق بمظالمها في المركز بهدف بناء تحالف بينها والمواعين النقابية التي انتظمت فيها القوى الجماهيرية للانعتاق من الاستعمار حقاً لا بمجرد علم ونشيد. وكانت لحظة هذه القوى الجماهيرية الغراء هي ثورة اكتوبر 1964 التي جاءت بحكومة لا سمعنا بها قبلاً ولا بعداً مثلت العمال والمزارعين والمهنيين وعقدت مؤتمر المائدة المستديرة لمناقشة مسألة الجنوب وردت المواطنة للنساء والشباب فوق سن الثامن عشر بمنحهم حق التصويت. بل كانت شرارة الثورة نفسها في إطار نقاش وطني عام حول بؤس سياسات الجنرال عبود في الجنوب ولوقف الحرب والتماس حل سلمي ديمقراطي لمسألته.
ومتى أحسنا قراءة حق تقرير المصير السوداني سنجد أنه تتويج للمساعي المعقدة لشعوب سودانية عظيمة لم تقبل بالدنية في مواطنتها وسهرت على أشواقها لوطن عادل وسوي وبذلت تضحيات نادرة وطويلة. وهذا استثمار في الحرية يغيب عن علوم السياسة التي توقفت بنازع الحرية عند حركة التحرر من الاستعمار. وأصبح النضال للحق والحرية، الذي أعقب الاستعمار، مما يثير ريب علمائها ممن نظروا له من باب الفتنة والفوضى. وهناك بالطبع من ناصر هذا النضال لمأرب قصير التيلة.
صار السودان من جراء ذلك كله بين نارين. فهو موصوف بأنه دولة فاشلة ستتفرق أيدي سبأ بمقياس "ريختر" لانفلات البلدان. فهو عندهم قد "نجح" في اجتياز كل معاييرهم للفشل المزري. وهو من الجهة الأخرى ملعون من علماء السياسة إذا تفادى فشله وتفرقه باستفتاء جماعاته المظلومة حول مصائرها. فتقرير المصير عند هؤلاء العلماء فيروس سيغزو جسد أمم أفريقيا وغيرها ويعديها. والعيب في علماء السياسة لا السودانيين الذين شخصوا الداء وعرفوا الدواء من فوق طريق طويل للآلام فالحرية. فعلماء السياسة ما يزالون يتداولون في فض الدولة-الأمة بمصطلح النكاح. فالطلاق خيبة وخراب عمار وضيعة أطفال. وسينتطر السودانيون توكفيل"هم" الذس سيميز تبنبهم أعادة التفاوض في بلدهم وتقرير المصير كتحليق شجاع على ذرى الحرية.
وليست الفاجعة في قبولنا بتخرصات العالم عنا فحسب بل باستدبارنا لتاريخ طويل في المسألة القومية اقتنعنا بعدها بأن نقطع دابرها بإعمال مبدأ تقرير المصير كممارسة مشروعة لتفكيك آثار الاستعمار. ولكن ما وقع الانفصال حتى ترخصنا في هذا الحق وأقبل بعضنا على بعض يتلاومون في من المسؤول عنه. لا أحد. فللحرية الحمراء باب. وإذا الشعب يوماً أراد الحياة,
خاتمة
أردت بهذه الورقة تنزيل الثقافة على السياسة الجرداء التي تقلبنا في بغضائها وداحسها وغبرائها حيناً طويلاً. ومتى استرددناها كانت لتجاربنا حسنها وقبيحها معنى. وقصدت بالورقة نقد الصفوة المثقفة من غير زاوايتها المفضلة وهي الفشل. فالفشل محصلة لا أسباب. ومن أقوى أسباب الفشل أن غالب الصفوة لم تلتزم بمقتضى الثقافة من جهة توفير منابرها وأدواتها بغير اعتذار بالفئة الباغية. فلم تعدم هذه الصفوة الملاجيء لأنفسهم حين طلبوها ولكن عز الملجأ لإذاعة أو قناة فضائية أو حتى صحيفة. ولا اعتذار أيضاً بقلة المال فبعضهم حمل أسلحة للقتال ضد الإنقاذ أكلف من الصحيفة أو الكتاب. ولذا حين جاءت الانتخابات في 2010 كان عليهم أن يقبلوا بدقائق الإنقاذ الجاحدة في منابر الدولة الإعلامية أو المقاطعة.
وليس يستغرب، والحال على هذا، أن تمر تجارب الأمة المفصلية ومعناها مستتر ما يزال. وصرنا أمة مشردة من ذاتها وصفاتها. بل توحشنا منهما. فلم يثقل علينا الموت مسلط السيف علينا منذ عقود فنعتبر. ولا يزال يؤرقني كيف قبلنا بدفن أكثر قادتنا جزافاً في قبور مجهولة ونحن أهل ثقافة لا يذكر موت عالم منها إلا قيل "وقبره ظاهر يزار" كما في طبقات ود ضيف الله. أم كيف أصبحنا عالة على العالم نتكففه التجربة فيبخسنا أشياءنا. فقد صار الانفصال "لعنة" علينا بينما يبدو تقرير المصير (المفضي للانفصال كخيار) هو المبدأ المرشح حالياً لينقذ أكثر لاعيننا من مآزقهم السياسية.
وفي تنزيل الثقافة على السياسة كسب أخطر وهو استرداد قوى الأمة الحية إلى دائرة السياسة. وقد احتكر هذه الدائرة لعقود العصب المسلحة. وصارت كذلك لأنها أخطأت السبيل، في تدقيق لمّاح لأميركال كابرال، أرادت ان تكون ثوريين مسلحين فأنتهت إلى طغم مسلحة. والعصب المسلحة ممتنعة على الثقافة وقوى الأمة الحية عندها مخزون للتجنيد يبدأ بالأطفال. ولن نبلغ الشعب الذي تقطعت أسبابنا به بغير الثقافة خلافاً لما يعتقد الكثيرون الذي حسبوا أمية الشعب تزهدهم فيها. فالانقطاع عن الثقافة يسد أبواب الصفوة إلى الشعب لأن عزلة الصفوة اصلاً، في قول شينو اشيبي، في تَقَطُّع وشائجهم بالوجدان العميق للناس. ولذا تحضر الصفوة للمواكب ولا يحضر الشعب.
Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.