كم يكفيهم من موتى ليقرر أهلي الرزيقات والمسيرية أن يعيشوا بسلام؟! كيف يستطيعون وهم أهل علم ودين وتقوى أن يتقاتلوا في شهر رمضان؟! لماذا يخلعون أحذيتهم ويرتدون عقولهم بدلا عنها؟! يطؤونها على الأرض ويمشون بها على الشوك والحصى فتكون أحذيتهم أما عقولهم فينقعونها الدم وبعد تمام البلل، يتناولونها شرابا يحللون به صيامهم كل هذا الوقت عن الموت! أين ينامون عقب القتال؟ وبأي بال يتغطون؟ وعلى أي خير سيصبحون؟! مساءً جاءت الأخبار تنقل نبأهم بالموت والقتال، قرابة المائتي قتيل من الطرفين في أول موسم رمضان وأول قطف للمشكلة التي لا تبدو حتى الآن في الأفق أصولها وفصولها المفضية إلى السيناريو الدامي، لكن المهم أن هناك خروقات قد حدثت في اتفاقية لم تكتمل شهورها الستة، وأن هناك موتا بفعل فاعل لم تختتم فعالياته ولم يقفل ستار مهرجانه بعد! وقبل أن تخلص لجان تقصي الحقائق من أكاذيب الفعل والفاعل والمجهول والمستتر من ضمائر الرجال وقبل أن ترفع توصياتها إلى لجان التحقيق في الحادثة المجرورة على طوال مواسم العام، ستكون محصلة أرقام الموتى تفوق أعداد أعضاء اللجان ومخصصاتهم! أما رجال القبيلة من عقلاء المسيرية والرزيقات فإنهم سيقلّبون أياديهم بين قراءة الفاتحة لأرواح الموتى وبصمات أوراق الديات، ويقلبون عيونهم على صور لا تنمحي من ذاكرة الأرض لذات أوراق الموتى! والجلاليب والثياب وبلا نساء أو رجال، بعد حين من الدهر، ستقف وحدها على حبال الصبر وانتظار الديات - وما زالت لم تدفع من موسم الموت السابق - وصيوانات العزاء تحكي بصوت مملوء بالريح النتنة، أنه كانت هنا ذات مساء وصباح حياة وأناس وعقول وأنعام (تبطرت) على نعمة الله بالوجود، فسخطها وسلطها على بعضها بالتقاتل، ولم يبق منها سوانا معلقين على الهواء والخواء ونتائج التقصي والديات! كم يمكن أن تساوي حياة الإنسان هناك أو هنا؟! كيف سيصلح عطار اللجان ما أفسده دهر القتال وديّن الرجال من حياة؟! إن حياة أهلي في جنوب وغرب دارفور مفسدة، ومسيخة منذ سنوات، يفتقدون أبسط مقومات الحياة الكريمة وليست المرفهة القائمة على أبراج بعيدة عن متناول العين المجردة، لا مدارس مؤسسة تؤمن تعليما يسيرا للأولاد والبنات، لا مستشفيات أو مراكز صحية عادية بدون نجوم تعالج ما أدخلته الأمراض والأوبئة في النفوس والأجسام، لا توجد مكتبات تعلّم الشباب حصاد العقول والعلماء لا توجد مراكز ترفيه تقيهم شر الإنفلات وتعالج الحماقة السريعة للانفعالات العمياء، لا توجد مشاريع فاعلة وهادفة للاستفادة من الطاقات الكبيرة لديهم للإنتاج والرعي والزراعة والصناعة، لا توجد عقول نظيفة تفكر في أصل المشكلة وتنتج حلا نظيفا خاليا من شوائب الميول الانسانية لجهة دون أخرى، لا توجد دراسات علمية لمعرفة أصول الاشتباكات و(الحزازات) وطرائق فضها بشكل جذري وليس مؤقتا، ينتهي بانتهاء المؤثر! وبديلا لكل هذا يتقاتلون يملأون فراغهم بقزقزة الأرواح ولعبة الموت يبرعون في أن يكونوا هم الجلاد بدلا من الضحية!! نتأثر بالبكاء والأسى والترحم بحسب قوة الموت وملامسته لنا، بحسب درجة اقترابه من جلدنا وعيوننا ودمائنا، بحسب مباغتته لنا، لكن علمتنا جيناتنا الوراثية أن الموت هو للرجال وأن حداد النساء عليه ضرب من ضروب الجاهلية البغيضة! فثقلت قلوبنا ودفعنا بشبابنا الى الحارة بحثاً عن غنائية فراسة وقوة وشجاعة لا تورد سوى التهلكة وبعد فاصل مداري قصير الى الانقراض! فهل عدوا أنفسهم.. المسيرية والرزيقات، قبل عشرة أعوام وبعد الآن؟ كم يوجد بينهم من شباب وأطفال ورجال فوق الستين؟! وكما نعلنها عن الزهج ونفاذ الحيلة (ستين مرة) تحدثنا عن ضرورة أن تحتشد عقول المسيرية والرزيقات الذين تعلموا وتروضوا على إدارة الغضب بشكل إيجابي لما فيه صالح أهلهم، ولازم وجود العقول الإدارية القديمة لمعرفة إدارة شؤون أولئك العباد فهم لا يعترفون بأصحاب الولاء السياسي ولو كانوا من ذات بيئتهم وبطونهم وأفخاذهم، لا يعترفون لأنهم يثقون وعبر تجارب تأريخية، أن الحكومة لا ترمي الكتاكيت لتبيض لهم ذهباً! ولأنهم جربوا كيف يتبختر أولادهم السياسيون في شوارع الخرطوم محتمين بدستوريتهم في برج فاتح على النيل يدرسون كيفية إدارة أزمة (أهلنا في دارفور)! وتعويض أهل القتلى من الطرفين! ستين مرة تحدث الطرفان والأطراف الزائدة والمنتدبة والحاضرة والغائبة، عن ضرورة حل أصيل لأزمة القبائل المتماسة في طرق الرعى والكلأ، ليس عبر لجان و.. الخ، لكن عبر توطين فعلي لهم كل في منطقته بتحفيزهم على الزراعة - وما أكثر أراض شاسعها وواسعها غير مزروع - التي تصبح ذات حدين منتجا خضريا للناس والسوق المحلي، وعشبا أخضر للأنعام والمرعى المقفل لكل قبيلة ومنطقة من الأخرى وبآباره وحفائره وموارد مياهه الخاصة والذاتية فلا بهائم وردت وسرحت في دار أو عد، ناس فلان أو مكان! فزماننا ما عادت تتسع ساعاته ودقاته لتحمل أنباء قتل وموت جديد، ومكاننا لم تعد فيه مساحة لطعنة سيف أو حربة أو رصاص! وأرواحنا لن تحتمل سعتها مثقال ذرة حزن مكتسب ومصنوع محليا وبأيدي أهلنا خبراء الموت والقتال، ولا أجسادهم بها قوة حمل للأسفار والتجوال بين الديار لجوديات الصلح وجمع الديات والرجال، ولا أقلامنا بها حبر صالح للكتابة ستين مرة أخرى عن الدماء وأنباء القتال وتجاوزات الرجال وجمع الأموال، و حال القتال بين المسيرية والرزيقات..!