٭ اشتقت إليك يا جدتي.. وأعلم ألا سبيل لأروي شوقي إليك إلا إذا اختارني الله لرفقتك في عليائه، اشتقت إلى رائحتك وضحكتك الواهنة العميقة، وبساطتك وتفاصيلك الحميمة، اشتقت إلى حكاياتك، وحلواك وعطاياك البسيطة القيمة، كنت أحب التصاقي بك، وإصغائي لحديثك، كنت أعتقد أنك خالدة وباقية فقد فتحت عيوني على وجودك وكنت شيئاً أساسياً في حياتي وموجوداً دائماً، لم أكن أظن أنك ستفارقينا، ولكن الموت حين جاء مضى بك وأبقاني وحدي، أبقاني دون أنيس أو معلم أو «حكواتي»، وحاولنا بعدها أن نعتاد على غيابك، غير أن أمي لم تتمكن من الخروج من عباءتك، أو كفكفة دموعها عليك بعد، وها نحن نقف كل يوم أمامك، وأنت صورة تزين جدران ذكرياتنا. ٭ وهذه أنا يا جدتي، حفيدتك الصغيرة المدللة، كبرت يا جدتي وكبر الحزن فيّ، وكبرت همومي ومشاغلي فلم أعد صغيرة ولا مدللة، أصبحت أماً، وهموم الأمومة لا تعرف الدلال، ولا التقاعس، كبرت يا جدتي، وأصبحت أماً قلقة ومقلقة، قطعاً لم أتزوج ابن السلطان كما خيل لي من فرط حكاياتك، أخلف الأمير وعده معي وخذلتني الأحلام البيضاء كثيراً، فر الفرح من أمامي كلص مطارد، وبعد أن كبرت وجدت سلطاناً لقلبي، ولكن لم يكن للحصان الأبيض في حياته أثر، فأتاني راجلاً يحمل قلبه وإخلاصه وعهداً بالتفاني أراه يجتهد حفظه الله في الإيفاء به. وها هي خريطة أيامي يرسمها رجل لا يمت للسلطة بصلة ويتنفس حلم الحطاب كل صباح على أمل الفلاح، لم يضع ملعقة ذهب في فمي ولكنه استبدلها بلحاف دافئ وبعض إحساس ثمين بالأمان. ٭ كبرت يا جدتي، وما زال الأحمر لوني المفضل، ولا زلت كل يوم قبل النوم أتقمص دور ليلى ذات الرداء الأحمر لأحكي لأبنائي قصتها ووفاءها لجدتها، ولكني أحذرهم من التجول في غابة الحياة المظلمة خوفاً من ذئب الغابة، وذئب الغابة الآن لا يلتهم فحسب، فبإمكانه أن يخدع وينصب ويسرق ويتحايل. ٭ كبرت يا جدتي، ولا يزال قلمي صديق ألمي الحميم، ولا زلت ألجأ إليه في لحظات الألم والإحباط والفجيعة في الآخرين، غير أني في لحظات الفرح لا أحتاج إليه بقدر ما أحتاج إلى كل من أحبهم وهم لو تعلمين لم يعودوا متاحين كما كانوا، تفرقت بنا السبل، وأخذتنا «المعايش» بعيداً فلم نعد نلتقي مثل السابق، ولم يعد بإمكاننا أن نتحلق حول شاي المغرب بالحليب أو كرات «اللقيمات» المغموسة في سكر البودرة كما كنت تفعلين لنا. ٭ كبرت، وكبرنا وكبر خوفنا وجنوننا، لقد تحررنا من العديد من قيود عاداتنا وموروثاتنا وانطلقنا نحو الانفتاح والإعلام والعولمة والحضارة ففقدنا الكثير من جمالنا ونقائنا وطيبتنا وبعدنا عن بعضنا وعن الدين. وكلما كبرنا، صغر هذا العالم في عيوننا.. كلما كبرنا، انسلت أعمارنا من بين أصابعنا.. كلما كبرنا، اقتربنا من الموت، وبهذا نكون اقتربنا من لقائك يا جدة.. فانتظرينا. ٭ تلويح: كبرنا.. وكبرت أحزاننا!