الآن نستطيع أن نقول إن كل الأنظار اتجهت إلى الزراعة والأرض وضرورة التوسع الزراعي، وذلك بعد أن عاني السودان التقشف والتعفف في ذات الوقت!!! باتت الزراعة هي المخرج الوحيد ونحن نعاني الحصار الاقتصادي المضروب علينا «رضينا» أم «أبينا»؛ لأنها سياسة دول الاستكبار التي «تريد» إذلالنا بقوتنا. وهل الخطة التي وضعت من أجل التوسع الزراعي في كافة المحاصيل الزراعية، ومن بينها القمح، تأتي للتأكيد بأن الزراعة هي المحرك لجمود الاقتصاد الوطني كما يقول الخبير الاقتصادي المعروف عبد الرحيم حمدي، عندما وضع البرنامج الثلاثي لفك جمود الاقتصاد السوداني؟ حينها تم تسخير كل الإمكانيات والمال لتحريك الزراعة في ظل غياب البترول، وقد نجحت الخطط التي وضعت في التوسع الرأسي والأفقي، وتلاه تمزيق الكثير من الفواتير الخاصة بالواردات، ومن بينها القمح، ولكن!!! بعد ذلك «تخلينا» عن الزراعة ورجعنا إلى المربع الأول، مربع الإذلال، لنزرع فقط ما يكفي «16%» من قيمة استهلاكنا للقمح ونستورد بقية النسبة من دول أقل منا إمكانيات زراعية وموارد طبيعية. د. عبد الحليم المتعافي وزير الزراعة أكد أن السياسات التي كانت متبعة لتشجيع زراعة القمح وزيادة المساحات بالشمالية ونهر النيل ودعم أسعار المدخلات كالسماد؛ هذه السياسة ظلت لفترة طويلة تعمل ولم تحقق المرجو منها؛ لأننا نستورد أكثر من مليون طن، و«250» ألف طن هو المنتج المحلي. الآن بدأنا التوسع في زراعة القمح باعتباره أحد المحاصيل الإستراتيجية هذا الموسم، حيث يتوقع أن تتم زراعة أكثر من «650» ألف فدان قمحاً مع التزامنا التام بتسلم كل المنتج من القمح من المزارعين بالسعر التركيزي المعلن، وبالرغم من التوسع في زراعة القمح هذا الموسم؛ إلا أن المساحة التي ستتم زراعتها تكفي فقط «40%» من حجم الاستهلاك بحسب حديث المتعافي، ما يعني أن البلاد بحاجة إلى زراعة مليون و «750» ألف فدان للوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي!! المعروف عن زراعة القمح أنها تحتاج إلى درجات منخفضة جداً من الحرارة، وإلا فإن المحصول سيتعرض جله للتلف، عليه فقد كان التركيز على ولايتي نهر النيل والشمالية باعتبارهما أكثر الولايات المؤهلة للتوسع في القمح مع لفت الانتباه إلى ضرورة استنباط عينات جديدة من المحصول تكون ملائمة لارتفاع درجات الحرارة. السؤال المطروح الآن: هل هناك توقعات بانخفاض درجات الحرارة ونحن نتوسع في زراعة القمح هذا الموسم؟ بروفيسور عبد الله خيار؛ المدير العام لهيئة الإرصاد الجوي، أكد أن توقعات شتاء هذا العام 2010-2011م للفترة من ديسمبر إلى فبراير سوف تكون أعلى المعدلات المناخية، ولكن عندما ننتقل للفترة من يناير إلى مارس نجد أن درجات الحرارة ستكون في حدود المعدلات المناخية. وباستعراض التنبؤات الصادرة من المركز الأوروبي ومركز التنبؤات المناخية الأمريكي؛ نجد أنها تتفق معنا بأن شهر ديسمبر سيكون أعلى من المعدل، في حين أنهم يذهبون إلى أن درجات الحرارة ستكون في الفترة من يناير إلى أبريل في حدود المعدل إلى أدنى من المعدل في جميع أنحاء البلاد. إذن، بلا مواربة نستطيع القول إن الوضع المناخي غير مطمئن، وذلك في ظل ما تنبئ به التوقعات في الفترة من ديسمبر 2010 إلى أبريل 2011م. د. هاشم العبيد الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الخرطوم أكد في سمنار «رؤى حول توطين القمح في السودان» الذي انعقد بوزارة الزراعة؛ أن التقلبات المناخية الحادة ظلت تعمل لغير صالح المزارعين والمنتجين، فإذا كانت الظروف طيبة والإنتاج وفيراً تدنت الأسعار، وأحياناً دون التكلفة، فيخسر المزارعون ويتعسرون في تسديد ديونهم، ويسمى «إعسار الوفرة»، ثم إذا ساءت الظروف المناخية يخرج معظم المزارعين من دائرة الإنتاج فلا يستفيدون من ارتفاع الأسعار لتغطية التزاماتهم ويسمى «إعسار الندرة». ولهذا، ووفقاً للدكتور هاشم؛ كان لا بد من إيجاد وسائل لتأمين مصلحة المزارعين وتحقيق الاستقرار والاستدامة لإنتاجيتهم، ولا يتحقق ذلك إلا بالاعتماد على أسعار مجزية للمحاصيل الرئيسية هذا الموسم، فالالتزام بهذه السياسة مكّن الدول الصناعية من زيادة مضطردة في الإنتاج الزراعي، وأصبحت بفضله تهيمن على معظم تجارة المواد الغذائية في العالم، وبفضله تحولت الصين والهند من مناطق فقر ومجاعة إلى دول مصدرة للغذاء للعالم، ونجد أن الدول الأوروبية رغم التزامها بسياسة التحرير الاقتصادي؛ فقد أصبحت سياسة «تسعير» المحاصيل الزراعية من أهم بنود السياسة الزراعية المشتركة التي تلتزم بها كل دول الاتحاد الأوروبي، فالولاياتالمتحدة قامت بسن قانون مماثل أنشأت به هيئة «التسليف» الزراعي لتأمين أسعار مجزية للمزارعين، وساعدتهم في تسويق المحاصيل، إذ تتولى المؤسسة تخزين المحصول وتعطي المنتج وثيقة بالقيمة بالسعر الأدنى المخزَّن، ويقوم المنتج بإيداع الوثيقة لدى أي مصرف ويحصل منه على قرض يتسق مع حجم الضمان الذي يكفي للصرف على احتياجاته المعيشية والاستعداد للموسم الجديد، وفي غضون ذلك يقوم المنتج بعرض محصوله في البورصات وأسواق المحاصيل فإذا حصل في غضون 3 أشهر على سعر أعلى؛ تعاقد عليه وسحب محصوله وسدد للبنك مبلغ القرض، وإن لم يجد تتولى المؤسسة أمر تسويق المحصول والاحتفاظ به كمخزون إستراتيجي للإسهام في برامج الأمن والعون الغذائي. وحسب حديث د. العبيد ففي السودان كانت هناك محاولات للتسعيرة، وبخاصة للذرة، وكانت تتم في وقت متأخر بعد أن يتحول الإنتاج من المنتجين إلى السماسرة والتجار ويكون المنتج خاسراً كمنتج ومستهلك. إن الإسلام أوضح جلياً سياسة الأسعار من خلال صيغة «السلم» التي تحدد سعر المنتج بين المصرف والمنتج، هذه الصيغة بموجبها يسترد المصرف قروضه عيناً من المزارعين من خلال الاتفاق على سعر مسبق للإنتاج عند بداية الموسم الزراعي وعليه يتجدد الإنتاج والإجراءات فيه تعتمد على «تكلفة الانتاج + ربح المزارع» مع الأخذ في الاعتبار أسعار السنوات الماضية، فإذا حدث ارتفاع مفاجئ في الأسعار بعد الحصاد وحتى لا يضار المزارع والمصرف؛ كان فرق السعر يقسم على ثلاثة، يحصل المصرف على ثلث، والمزارع على ثلثين، وكذلك الحال في حالة انخفاض السعر، على يتحمل الجهاز الثلثين والمزارع الثلث. وعليه فإننا نرى أن يقوم جهاز المخزون الإستراتيجي والبنك الزراعي السوداني بتحديد أسعار مجزية للحبوب وشراء كل الفائض من إنتاج المحاصيل بالسعر المتفق عليه التزماً بما جاء في التنزيل «فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ». إذن نؤكد والحديث للدكتور هاشم أنه لا بد من اعتماد أسعار مجزية للمحصول تعلن قبل الموسم كما هو مقترح لهذا الموسم 2010- 2011 وذلك باعتبار أن القمح سلعة إستراتيجية ومهمة يجب توفيرها محلياً لغذاء أهل السودان ولتشجيع المزارعين وتحقيق الاستقرار. ففي كل دول العالم المنتجة والمصدرة للقمح توجد هيئة خاصة بالقمح Wheat Board فهذه الهيئة تقوم بالتوجيهات المستقبلية لتطوير زراعة القمح وتشرف على استنباط سلالات لإنتاج أنواع جديدة من القمح عالية الجودة ملائمة لمناخ البلد وذلك لتشجيع المزارع على الاستمرار في زراعة القمح. ففي السودان لا بد من الاستمرار في زراعة القمح فقد شهدت الفترة الأخيرة تزايداً مضطرداً لاستهلاك القمح وذلك نتيجة لارتفاع معدل السكان وتصاعد معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر وتغير النمط الاستهلاكي لسكان السودان نحو القمح، لقد أدى كل ذلك إلى اتساع الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك المحلي، فبينما نجد أن السودان وصل إلى الاكتفاء الذاتي في موسم 1990-1991م كان استهلاكه في تلك الفترة مليون طن وفي منتصف التسعينيات بدأ الانتاج في التدني وزادت هذه الفجوة للفترة 1994-1997م وصلت «55%» واستمرت الفجوة في الاتساع حتى وصلت في العام السابق 2009-2010م إلى «84%» والإنتاج المحلي «16%» فقط من الاستهلاك البالغ «2.2» مليون طن.