ديون السودان تركة قديمة تداعياتها متجددة، هل يحسم أمرها اجتماع الشريكين الأسبوع المقبل؟، فقد قطعت الحركة الشعبية على لسان أمينها العام أن أمر هذه الديون لا يعنيها وليست ملزمة بسدادها ونعتها الأمين العام للحركة الشعبية «بالديون الدموية» وقطع أن الانقاذ استخدمتها لمحاربة شعب الجنوب، بينما تفاصيل موضوعية تؤكد أنها تركة قديمة منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي حلت آجال سدادها من الثمانينيات وعندما عجزت الحكومة حينها عن سدادها أصبحت تلاحقها لعنة التعثر والجزاءات لتصل بحلول العام المقبل وفق خبراء إلى نحو (38) مليار دولار أكثر من ضعفها هي فوائد وجزاءات بينما تؤكد دفاتر رسمية أن أصل الدين كان لا يتعدى (14) مليار دولار فقط، فيما توقعت مراكز اقتصادية عالمية أن تتبنى حكومة الجنوب خطوة المطالبة بإعفاء نصيبها حال الانفصال لا التنصل عن الالتزام بها. ويبدو حديث الأمين العام للحركة الشعبية ووزير السلام بحكومة الجنوب بعيداً عن واقع الحقيقة، وصنف مراقبون حديثه بأنه للاستهلاك السياسي فقط، إذ أن الشأن برهنته أدلة قاطعة صدرت من جهات رسمية لا يمكن للحركة الشعبية أن تشكك فيها لأنها مؤسسات دولية. وما يجب أن يقال في إطار الموضوعية بشأن هذا الملف هو ذات الحديث الذي أدلى به الخبير الدولي في مركز (جلوبال يفلوبسنت) في واشنطن عندما تساءل كيف ستقسم ديون السودان في حال انفصال الجنوب؟ هل ستعفي الولاياتالمتحدة نصيب الجنوب وترفض إعفاء نصيب الشمال؟ وعلق الخبير الدولي بقوله: إن سياسة أوباما تجاه السودان يجب أن تشمل اغراءات بشأن إعفاء ديون السودان. وبينما تبدي حكومة الجنوب تنصلا واضحا تجاه هذه التركة يرى مراقبون أن الأمر يتوجب النظر إليه في إطار الالتزامات، وكان بنك السودان قد قطع بأهمية معالجة ديون السودان قبل اجراء الاستفتاء بهدف تسهيل اجراءات انفصال محتمل. وكان البنك الدولي قد أكد أنه سيمنح عضويته لدولة جنوب السودان المستقلة على وجه السرعة حال حدوث الانفصال بما يمكنها من الحصول على قروض البنك سيما أن الوضع الحالي لا يسمح بمنحه قروضاً مما يفضح تضارب سياساته حيال هذا الملف. وسبق أن أشارت نائب رئيس البنك الدولي السيدة أوبيا جيلي ايزيكو يسيلي في زيارة سابقة لها الى عاصمة الجنوبجوبا الى أن الجنوب في حال انفصاله ستكون له الأولوية للانضمام إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مؤكدة أن العملية لن تأخذ وقتاً طويلاً وأردفت بقولها: «سنعمل على قدر من السرعة لانضمام الدولة الوليدة إلى البنك»، إلا أنها قالت إن وضع السودان الآن غير مؤهل للحصول على قروض لعدم تسديده متأخراته. وقراءة عميقة للملف توجب علينا أن نعلم كيف حيكت القصة؟ ومن حاك فصولها؟ ولماذا ومتى حيكت تفاصيلها التي بدأت منذ العام 1971م مع بدايات عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري؟. وكانت السانحة وقتها جيدة لإغراق النظام بالديون من قبل دول غربية بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية وبالفعل بدأت الأموال تتدفق على النظام خاصة من أمريكا وشمل ذلك المعونة الأمريكية، لكن ما كان يلفت حقاً هو أن الشروط والجزاءات التي وضعت في حال تعثر سدادها لاحقاً كانت مثيرة والمشاريع التي صرفت عليها كانت في الواقع مشاريع فاشلة!! وبالفعل كانت جملة المشاريع التي نفذت في تلك الفترة مشاريع فاشلة مثل تعليب البلح في كريمة وتجفيف البصل في كسلا ومصانع في منقلا وملوط...الخ. وكان سيناريو إخراج قصة تلك المشاريع الفاشلة هو أيضاً حكاية دعونا فقط نستعرض قصة مصنع كسلا على سبيل المثال الذي انشئ في العام 1977 1982 .. وكان هذا المصنع يعمل أربعة أشهر في السنة وتظل ماكيناته عاطلة عن العمل لثمانية أشهر في السنة يتم خلالها صرف المرتبات وكافة الاستحقاقات المالية الأخرى بما فيها الحوافز للعاملين بالمصنع خلال فترة التوقف بينما أكد خبراء أن ماكينات المصنع كان يمكن أن تعمل لمدة عشرة أشهر في السنة. وما يثير حقاً هو أن الموضع كان يتبع مباشرة لإدارة مؤسسة الصناعات الغذائية رأساً في الخرطوم وهي ذات المؤسسة التي ترأس المصانع الأخرى .. تعليب البلح في كريمة، ألبان بابنوسة وتعليب كوستي. وعلى المراقبين أن يتساءلوا كيف يمكن أن يوصف تدفق القروض والديون على مشاريع فاشلة مع مواصلة الإغراق .. ليصبح السيناريو على النحو الآتي ديون ومشاريع فاشلة إغراق في الديون حتى أصبحت المحصلة تأخر سداد ثم تعثر سداد. وذات الخطة التي تهدف إلى إغراق الدولة بتلك القروض أقرها الخبير الأمريكي في الاقتصاد السيد جونز عندما اعترف في مذكراته (الاغتيال الاقتصادي) انهم كانوا يسعون لإغراق دول في العالم الثالث عبر الاستدانة من البنك الدولي والصندوق الدولي لتمويل مشاريع فاشلة في تلك الدولة بهدف جعلها تغرق في المليارات من الديون وتتعثر لاحقاً في سدادها بهدف إحكام قبضة الولاياتالمتحدة عليها. وتعود أصول تلك الديون إلى فترة السبعينيات حينما شرعت حكومة نميري في استدانة مبالغ مقدرة من المجتمع الدولي مستفيدة من الفوائد الضخمة للنفط في العالم إبان ارتفاع أسعاره في تلك الفترة وتحسن العلاقات مع الدول الغربية والعربية وبعد تأييد دول لاتفاقية كامب ديفيد إلا أن جزءاً مقدراً من تلك الديون وفق اقتصاديين وجه للعون السلعي لاستيراد القمح والأدوية والنفط اي للاستهلاك ولمشروعات غير مدروسة مثل مشاريع النسيج والسماد أو مشروعات تأثرت بالحرب في الجنوب مثل قناة جونقلي وسكر ملوط. وأكدت جهات مختصة أن تلك القروض لم توجه لدعم مشروعات مدروسة تدعم الإنتاج والصادر والبنيات الأساسية لدعم موارد الدولة من العملات الحرة وتبعاً لذلك لم يتمكن السودان من سداد التزاماته من الديون الخارجية لحين آجال سدادها الذي حل في الثمانينات وارتفعت تبعاً لذلك الفوائد الجزائية وخدمة الدين في الأعوام اللاحقة. وتعتبر الدول غير الأعضاء في نادي باريس أكبر الدائنين للسودان تليها دول نادي باريس والمؤسسات الدولية الأخرى ويقف صندوق النقد الدولي على قائمة الدائنين إذ قام في العام 1978م بإقراض السودان (700) مليون دولار ورغم سداد السودان لجزء من هذه المديونية إلا أن الدين القائم الآن ضعف أصل مبلغ القرض بسبب الفوائد الجزائية الباهظة التي تفرض على المبالغ التي لم يتم سدادها. وحسب تقرير صادر من وزارة المالية فإن مديونية صندوق النقد الدولي للسودان قدرت بنحو 38% بينما قدرت مديونية البنك الدولي ب33% من إجمالي حجم المديونية. وتعتبر الولاياتالمتحدة أكبر الدائنين وبدأ تدفق ديونها على السودان في مطلع السبعينيات والثمانينيات وكانت عبارة عن قروض لاستيراد القمح الأمريكي. ويؤكد السفير الأمريكي الأسبق اندرسون إبان فترة الديمقراطية الثالثة في عهد الصادق المهدي في مذكراته تحت عنوان (السودان في أزمة .. فشل الديمقراطية) أن أمريكا كانت في الواقع تتلقى من الخرطوم أموالاً أكثر مما كانت تدفع لها في ذلك الوقت في إشارة لفوائد تلك الديون التي حلت آجالها في منتصف الثمانينيات. وقد يفهم بالفعل أن الأمر برمته عمل سياسي قصد إقحامه في إطار أجندة الإستراتيجية الأمريكية تجاه السودان فقد أكد خبراء اقتصاديون أن تلك الديون لم تكن بالفعل تلبي خطط التنمية الاقتصادية في السودان بل أحدثت اختلالات هيكلية في الاقتصاد السوداني وذهب خبراء آخرون إلى أن الاقتصاد السوداني لا يزال يواجه صعوبات عديدة أمام تقدمه من بينها ارتفاع حجم المديونية الخارجية بما جعل الاقتصاد السوداني يرزح تحت قيودها بالإضافة إلى القيود التي يفرضها التزام سداد الديون الحرجة على أداء الإنفاق العام الموجه للتنمية الاجتماعية خاصة ما يلي جوانب تخص المواطن مباشرة من بينها رفع مستوى المعيشية وخفض معدلات الفقر. وذهب خبراء اقتصاديون من البنك الدولي نفسه إلى أن السودان لا يعاني من الجوانب الفنية بخصوص معالجة ديونه بقدر أن الأمر مرهون بجوانب سياسية تعلمها الإدارة الأمريكية التي سبقت وأن لوحت مرات عديدة بمعالجتها في شكل إغراءات في إطار تسويات سياسية من بينها قضايا تخص الاستفتاء والمساومة بشأن منطقة أبيي .. ويمكننا النظر والترقب لما تسفر عنه زيارة وفد من الخزانة الأمريكية خلال ديسمبر الحالي إلى الخرطوم بشأن معالجة تلك الديون.