عندما يتجلى الحديث برأي النائب الأول لرئيس الجمهورية «علي عثمان محمد طه» بأن الخدمة المدنية تتعرض لهزة قوية، يجب أن يدرك الذين لا يقرأون واقع العمل في هذه البلاد جيداً ويترفعون عن فهم الطرح الذي تتناوله الصحافة بتجرد ومسؤولية في هذا المنحى؛ أن ما ذهب إليه «طه» بعدم التعامل مع «الوساطات والتوصيات» في سلك الوظيفة يدعم بشكل أو بآخر أصوات الكُتّاب التي جهرت بضرورة تحري الكفاءة في جميع المؤسسات الحكومية وسد الطريق أمام المجاملات والعلاقات الشخصية، أيّاً كانت. فكثيراً ما يُطرح السؤال لبعض المسؤولين عن أسباب تدني الآداء في بعض المؤسسات والشركات أو تدهور بنية المشروعات الكبرى فلن تجد الإجابة الشافية التي تقول بأن الولاء وصلة القرابة يسيطران على مفاصل العمل في كثير من دواوين الحكومة، ولقد تحدث الكُتّاب وأطنبوا في تمدد هذه الإشكالية التي أقعدت همة العمل الوظيفي الذي يجب أن يتدرج وفقاً لطبيعة الأداء الجيد إلى مبتغاه وهو التقدم الذي ينعم بمنفعته الأفراد والجماعات على السواء. والتعاون الصناعي الذي أُعلن بين بكين والخرطوم، ضمن العمل المثمر لتطوير العلاقات، هو الذي يمكن أن يدفع الصناعة للأمام كما ذكر ذلك وزير الصناعة د. عوض الجاز. وأحسب أن التواصل مع شركات صناعية رائدة يشكل نافذة مضيئة تربطنا بالتجارب الخارجية والاستفادة منها، ولكن إذا لم نتعرف على أخلاقيات العمل التي تنهجها دولة كبرى مثل الصين وتطبيقها على واقع نشاطنا الصناعي؛ فلا أحسب أن النمو سيبلغ المدى الذي نريد. فلا مجال للمحسوبية والقبلية والحزبية وغيرها من السموم التي تسرى في جسم المؤسسات التي تؤدي بدورها إلى عطب حركة العمل في السودان وتهدم على نحو كبير جملة من المشروعات سواء كانت صغيرة أو كبيرة. الجامعات تفرِّخ على نحو متواصل طلاب علم تدفع بهم احتكارية التوظيف إلى دروب شتى كاملة العتمة. والعلاقات تخدم فلاناً وعلاناً وبحوزتهم الشهادات الصغيرة! فتدبروا حديث نائب الرئيس وهو يوجِّه حديثه للأمناء والوكلاء «لا يغرنكم توصية فلان وعلان أو الحزب الحاكم وغيره، استوعبوا الناس بمؤهلاتهم وسأسألكم عن هذا أمام الله يوم القيامة». ولفترة غير قليلة ظلت المؤسسات والشركات تعج بعناصر غير جديرة بالمسؤولية على الإطلاق. تلك المسؤولية التي كلفوا بها من قبل الوزراء والمسؤولين الكبار لخدمة الشعب. والشعب هو الذي يصطلي بنار فاقد الكفاءة والمسؤولية والضمير. التجارب والأفكار التي نود جلبها هنا لا تعتمد فقط على المهارات الذهنية والعضلية؛ إنما تجارب قامت على صلب أخلاقيات العمل واحترام الوقت والمصلحة العامة والتفاني في العمل والكفاءة والخبرة والصدق. فنحن نحتاج لهذه الأخلاق والقيم قبل كل شيء حتى ينتظم العقد. فهذه القيم هي التي تحقق النهضة. واسألوا الصين نفسها أو دولة ماليزيا الراقية. والإشكالات التي «عَسَّمتْ» ظهر هذا الوطن في اعتقادي منشؤها هو غلالة التردي التي تكتنف سير أجهزة الخدمة المدنية. وأحسب أن الأخلاق في العمل العام هي من أكثر الآليات منعةً ويمكن أن تزيل العسر والفاقة عن كاهل البشر؛ لأنه وقتها لن يطالبك أحد، وأنت في هذه الحال، بعدالة توزيع في سلطة أو وظيفة أو معيشة؛ لأن الأمور بدون شك ستأخذ مسلكها الصحيح، ولن يحمل عليك فرد أو جماعة عصا أو بندقية بُغية استرداد حقوقه المسلوبة. هذه الأخلاق كان ولابد أن تطال كل مرافق الدولة وكل الشركات العامة الخاصة بمسؤوليها وموظفيها ومنسوبيها. فواقع الخدمة المدنية لا يوازي على الإطلاق أهداف المشروع الحضاري الذي تبنته الحركة الإسلامية التي دان لها حكم البلاد زهاء العقدين من الزمان وأيَّده رجالها كفكرة راسخة ترفد سبل التطور والنماء. فالتكليف الذي تم من قبل في اعتقادي لعناصر معينة في مجال الخدمة؛ لم يثمر شيئاً ذا قيمة وذلك لضعف ركائز الخبرة والعلم والمعرفة؛ مما أدى هذا الفقد إلى استهلاك الوقت الباهظ، فظلت المخرجات التي ينبغى أن ينعم بها المواطن شحيحة وبائسة لا تتكفل بتصريف شؤون حياته. فالنظر من ثقب الباب لا يجدى شيئاً، ادفع الباب ودع الناس يدخلون. فدولاب العمل في الدولة لا يتحرك إلا بمجموعات متباينة ومتفانية تخدم المصلحة العامة. تلك المصلحة التي كان يمكن أن تجعل السودان واحداً موحَّداً وتطفئ لهيب الصراعات والحروب وأن تستوعب الناس بكفاءتهم ومؤهلاتهم بعيداً عن مواصفات أخرى. ولقد دأبت بعض مواقع المعاينات للوظائف أن تسأل الناس عن قبائهم. فإذا كان القصد التعارف والتقى، إذن لماذا يتضجر المجيبون؟! أما إذا كان غير ذلك فالأمر بالتأكيد يحرجهم بانتمائهم لوطن تربوا في كنفه منذ الصغر وتعلموا في مدارسه وجامعاته وفي آخر المطاف تُطرح عليهم أسئلة غبية لا تعدو أن تكون حسب اعتقادي مجرد ذريعة لتضييق الفرصة التي يتنافس عليها المئات.. وربما الآلاف.