رغم ما بُذل من مجهودات داخلية وخارجية لحل مشكلة أبيي وما طُرح من ترغيب وترهيب؛ ظلت المشكلة تراوح مكانها. فكلما فكرت الوساطة في حل أخضعه الشريكان المتشاكسان للدراسة والتقييم، ونظر كل طرف لمصلحة مجموعته القبلية التي تساند سياساته في المنطقة. لهذا السبب أصبحت أبيي حبيسة في سجن الساسة والسياسيين دون غيرها. وحتى حينما فكر بعضهم في ترك المشكلة لأهلها وقبائلها التي تعايشت وتصاهرت لسنوات عديدة؛ عكست هذه القبائل فصلاً آخر من فصول الصراع لم تعرفه من قبل بسبب تأثرها بإفرازات صراع السياسيين وحساباتهم التي أجهضت علاقات التعايش السلمي؛ حيث أصبحنا نسمع باستعداد هذه القبائل للحرب، وتأكيدات الجهات المراقبة بأن مشاكل الحدود ومناطق النزاع كفيلة بإشعال شرارتها. على الصعيد رسمي تقبع في منضدة الرئاسة مقترحات (أمبيكي) التي قيل إنها رُفضت قبل إعلانها، وفقاً لحديث مصادر عديدة. ويبقى السؤال: فيمَ تفكر قيادات المنطقة وكيف هي الأوضاع على ضوء إعلان المسيريَّة لحكومتهم الجديدة وهل تبقى خياراً يمكن أن يُخرج الأطراف من هذا النفق المظلم؟ للإجابة على هذه الأسئلة التقت «الأهرام اليوم» بالقيادي المعروف عبد الرسول النور في حوار شامل، فماذا قال: { كل المؤشرات والقراءات تتوقع أن تعيد مشكلة أبيي الحرب بين الشمال والجنوب. ما قولكم؟ الأوضاع في أبيي هي انعكاس للأوضاع العامة في السودان؛ فهي المنطقة الوحيدة التي تمَّ استثناؤها من إعلان مبادئ الإيقاد التي قامت عليها مفاوضات مشاكوس واعتمدت الحدود التي تركها المستعمر أول يناير 1956م بين الشمال والجنوب. وبرتوكول مشاكوس الإطاري الذي حدد الجنوب بجنوب خط حدود أول يناير 1956م، أبيي كانت المنطقة الوحيدة التي استُثنيت في طول الحدود التي تزيد عن ألفيْ كيلومتر وأهلها لازالوا يسألون: لماذا لم تُستثنَ حفرة النحاس أو كافيا كنجي! { لماذا تمَّ استثناؤها دون غيرها؟ لأن أولاد دينكا نقوك مسيطرون على الحركة الشعبية وكانوا شركاء في مفاوضات نيفاشا، لذلك تمَّ استثناء أبيي دون غيرها مجاملةً لأولاد دينق مجوك الذين يحكمون الآن في الجنوب والشمال وأبيي. { لكنكم حينذاك وافقتم على ما اتُخذ من إجراءات بشأنها؟ أبداً، لم نوافق، الاتفاق كان اتفاقاً سياسياً بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، والذين وقعوا على برتوكول أبيي هم ممثلو الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني وليس المسيريَّة. { المسيريَّة محسوبون على المؤتمر الوطني؟ ليس كل المسيريَّة مؤتمر الوطني؛ فبينهم حركة شعبية وحزب أمة ومؤتمر شعبي وآخرون حملوا السلاح مع حركة العدل والمساواة. فالمؤتمر الوطني يمكنه التحدث باسم الحكومة والحزب الحاكم؛ لكن لن يستطيع الحديث باسم قبيلة المسيريَّة لاختلاف توجهات أفرادها، وربما أحياناً تتلاقى أجندة المؤتمر الوطني مع المسيريَّة. { إذا كان الأمر كذلك، لماذا لم ترفضوا ذهاب الأطراف إلى لاهاي وحديث المؤتمر الوطني نيابةً عنكم؟ لا يمكن أن نرفض ذلك؛ لأن التحكيم في لاهاي كان بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. { وبالمقابل الالتزام كان التزاماً قانونياً؛ ما يعني أن رفضكم الآن لهذه الخطوة خرق للقانون، أو كما قال لوكا بيونق القيادي بالحركة في حوار مع «الأهرام اليوم»؟ لوكا بيونق ابن ناظر الدينكا وهو يعلم أن هذه المنطقة منطقة المسيريَّة والدينكا عاشوا معهم، وهو من قادة الجيش الشعبي والحركة الشعبية ويعلم كذلك أن هذا الجيش والحركة لم يدخلا أبيي إلا ببطاقة السلام. وأسأل: من الذي كان يحرسها أيام الحرب؟ الحركة الشعبية سبق أن احتلت قيسان والكرمك لكنها لم تستطع عبور «البحر» والدخول إلى أبيي إلا ببطاقة السلام وبموافقة الجميع. فهل يريدون الآن أن يفرضوا الحرب على منطقة دخلوها بالسلام؟ { ألا تعتقد أن هناك مخاطر كبيرة عليكم حال انفصال الجنوب وتكوين دولته؟ المخاطر كبيرة؛ لأن دار المسيريَّة تجاور شمال بحر الغزال وأويل وواراب ومناطق قبريال ومناطق أقرب لأعالي النيل. والخطر يكمن في أن حدودنا الجنوبية كلها ستكون مجاورة للدولة الجنوبية الوليدة حال اختيار الجنوب الانفصال. لذلك نحن نريد ترسيم الحدود قبل الاستفتاء حتى يكون «ما لله لله وما لقيصر لقيصر». ولا شك أننا سنعمل للوحدة وعلى استعداد للتضحية من أجلها لكن إذا لم تتحقق نريد انفصالاً سلمياً لأننا «قاعدين» في «فك الذئب» ونحن كنا وقود الحرب فلا نريد أن نكون ضحايا السلام ولا نرغب في محاربة الذئب لكن سندافع عن أنفسنا حتى لا ندخل بين فكيه. { في وقت سابق تحدثت بعض القيادات المسؤولة عن نيتهم ترك مشكلة المنطقة للقبائل، فماذا فعلت هذه القبائل؟ أبناء قبيلة دينكا نقوك والمسيريَّة التقوا في أديس أبابا ولم يصلوا لنتيجة، وكان متوقعاً ألاَّ يصلوا لاتفاق. { لماذا؟ لأن دينكا نقوك كان ظهرهم محمياً بالحركة الشعبية التي أتت بهم إلى أديس أبابا؛ فقيادات دينكا نقوك أتت بهم الحركة الشعبية واستضافتهم أمريكا في فنادق أديس لذلك لم نتوقع أن نصل لاتفاق. { بالمقابل المسيريَّة أتى بهم المؤتمر الوطني؟ أتى بهم المؤتمر الوطني لكن استطاعوا قلب الطاولة في جلسة الوفد الرسمي وأنا كنت جزءاً من وفد الحكومة. وحينما اتهمنا المبعوث الأمريكي غرايشن بأننا نحرِّض المسيريَّة قلنا له أذهب لهم واستمع لرؤيتهم. وعندما قابلهم قال لهم أنتم تحرضون المؤتمر الوطني. إذن، لا المسيريَّة حرِّضوا المؤتمر الوطني، ولا المؤتمر الوطني حرِّض المسيريَّة. وإذا أعطت الحركة الشعبية دينكا نقوك فرصة والمؤتمر الوطني أعطى فرصة للمسيريَّة والأمريكان ابتعدوا؛ يمكن أن تتوصل الأطراف لحل؛ لأن وفد الحركة الشعبية كان فيه دينق ألور ولوكا بيونق ودينق كوال وهم حركة شعبية. { والحال كذلك بالنسبة لوفد المؤتمر الوطني الذي يضم الدرديري محمد أحمد؟ أبداً، أنا مثلاً لستُ «مؤتمر وطني»، أنا «حزب أمة» من منازلهم، وكنت ضمن وفد الحكومة . { بشهادة الجميع أن اجتماعات أديس أبابا فشلت في إحداث توافق بين الأطراف؟ أديس أبابا لم تفشل وإنما أغلقت ملف برتوكول أبيي وقرارات لاهاي وفتحت ملفاً جديداً للبحث عن حلول. { ماهي أجندة هذا الملف؟ أول أجندته أن يتم النقاش حول: لمن تذهب المنطقة، هل تذهب للشمال دون استفتاء وتضمن حقوق دينكا نقوك؟ أم تذهب للجنوب وتضمن حقوق المسيريَّة؟ وخيار آخر تحدث عن تقسيم المنطقة شمالا وجنوبا أو تصبح منطقة مستقلة. وأعتقد أن اجتماعات أديس أبابا فتحت طريقاً ثانياً ولا ندري هل سيصل إلى طريق مسدود أم يمضي إلى الأمام. { كيف ترى، أنت، إمكانية الحل؟ وهل يمكن أن يُستخلص من المقترحات الأمريكية والأفريقية؟ المقترحات الأفريقية لم نسمع بها حتى الآن بشكل رسمي، ومقترحات أمريكا رُفضت لأنها تحدثت عن تصويت دينكا نقوك والمسيريَّة الذين ظلوا في المنطقة ل(5) سنوات من ضمنها فصل الخريف، رغم أن الأمريكان أنفسهم عادوا واقتنعوا بعدم إمكانية تحقيق ذلك. { برأيك، لماذا يتمسك دينكا نقوك بعدم تصويت المسيريَّة؟ دينكا نقوك يعتقدون أن مشاركة المسيريَّة بأي قدر سيقود إلى تقرير مصير المنطقة لصالحهم. المسيريَّة قالوا، بحسب التاريخ، إن بحر الغزال أصبحت مديرية عام 1902م وقبل ذلك كانت تحت قبضة الاحتلال، ودينكا نقوك حُوِّلوا من بحر الغزال إلى كردفان سنة 1905م، وهذا يعني أنهم بقوا في بحر الغزال (3) سنوات وفي كردفان من العام 1905م 2010م، بجانب ذلك المسيريَّة ظلوا ينالون (2%) من البترول مثلما ينال دينكا نقوك وهذا اعتراف بالوجود والأحقية، فلماذا يصوِّت الدينكا ولا يصوِّت المسيريَّة؟! { يبدوا أن هذا لم يقنع أمريكا؟ أبداً، أقنعها لأنها عادت وتحدثت عن أن أي شخص استقر في المنطقة (85) يوماً يحق له التصويت، لكن دينكا نقوك رفضوا. { بوصفك أحد قيادات قبيلة المسيريَّة، ماهي الخيارات المتاحة أمامكم؟ المسيريَّة أكدوا أنهم قبلوا بالحوار والنقاش حول مصير المنطقة من أجل السلام، وما دام هذه الإجراءات لم تقُد إلى سلام ولم تُعطِ حقوقنا؛ سنتمسك بحدود 1/1/1956م، ودينكا نقوك لهم حق مثلما لنا حق؛ ما يعني أن حق المواطنة مكفول للجميع، وأي أرض شمال 1/1/1956م سنعتبرها ملكاً لنا ونسعى لتحريرها. { قيل إن هناك اختلافات وسط قيادات المسيريَّة الرسمية والقيادات الأهلية، فما صحة ذلك؟ المسيريَّة قبيلة كبيرة، وأعتقد أن وجهات النظر الآن أقرب لبعضها البعض من أي وقت مضى. { رغم ذلك قيل إنهم يحمِّلون قيادات المسيريَّة الرسمية مسؤولية ما يحدث بشأن المنطقة، أمثال الدرديري؟ الدرديري محمد أحمد مثلاً حاور باسم المؤتمر الوطني، وفي تقديري قاد حواراً جاداً وتمكن من تحرير الوثائق الفنية. وأي حديث غير ذلك عنه سيكون فيه كثير من التجني. { ماهي طبيعة الأوضاع السياسية في المنطقة الآن؟ المنطقة متوترة الآن والمسيريَّة مُلْجَمُون ولن يبدأوا بالعدوان على أحد، لكن في حالة الاعتداء عليهم سيردعون أي عدوان. { ماذا عن دينكا نقوك؟ دينكا نقوك غير موجودين في المنطقة، أغلبهم يعيشون في كندا وأستراليا والخرطوم ويأتون هناك لإثبات الحق والتصويت وليس للاستقرار؛ لأن ظروف المنطقة صعبة. { أخيراً، هناك من يرسم صورة قاتمة لمستقبل السودان، فكيف تراها أنت؟ الأوضاع تشوبها ضبابية بسبب البداية المزعجة لعملية التسجيل التي صاحبها إحجام كثير وكبير من قبل المواطنين الجنوبيين خاصةً في شمال السودان وبعض مناطق الجنوب التي تعتبر المؤشر الأول لإجراء استفتاء حر ونزيه، ثم تلا ذلك اتهامات متبادلة بين الشريكين حول تعطيل هذه العملية. والحركة الشعبية تعتقد أن الذين يسجلون ويصوتوِّن في الشمال ربما تأثروا بالأجواء الموجودة في الشمال وأدلوا بأصواتهم لصالح الوحدة. والمؤتمر الوطني يعتقد أن الحركة الشعبية والجيش الشعبي قد يتدخلا في عملية الاستفتاء، وهذا يؤثر على النزاهة. { يؤثر على النزاهة لكن الاستفتاء سيتم، أليس كذلك؟ هناك تهديدات بعدم قبول النتيجة إذا كانت غير نزيهة، والحركة الشعبية ربما تلجأ إلى أساليب أخرى لتقرير مصيرها فهذه أجواء قاتمة وخطرة تجعل من الاستفتاء شَرَكاً خطيراً.