{ ربما كانت هذه من المرات القليلة التي أسند فيها دور بطولة لنفسي، وأكره أن أكون دائماً بطلاً لقصصي ومقالاتي، لولا أنني هنا بمثابة الشاهد الوحيد، وأننا نريق قارورة عطر هذه الذكريات والأشجان والآمال بين يدي العيد الأول لصحيفة «الأهرام اليوم» الذي يصادف الواحد والعشرين من الشهر الجاري. { وإذن لا ضير بأن نعود بكم الى جذور «قصتنا الجميلة»، بأزهارها ونخيلها، (ما هي دنيتنا الجميلة)، أعني دنيا الصحافة التي من فرط مشاويرها ونكدها قد تتحول الى «حالة أنس وفرح» فكل دور إذا ما تمَّ ينقلب، إنها أقدار الحياة وتصاريف الدهر، فكل إنسان يمشي مشوار حياته وكسب عيشه الى نهايته، ومشيناها خطًى كُتبت علينا، ومن كُتبت عليه خطًى مشاها، وإنها لعَمْرِي فرصة لنفتح دفتر الأيام من الأول الى الآخر، كما يعبِّر عن ذلك شاعرنا الشفيف هاشم صديق: أذّن الأذان وحنصلِّيك يا صبح الخلاص حاضر ونفتح دفتر الأحزان من الأول الى الآخر ونتساءل منو الكاتل منو المكتول منو الربحان منو الخاسر { ويُذكر في هذا السياق، أن الكاتب القاص إسحق فضل الله قد سئل يوماً عن منشأ «حكايته الإعلامية» كيف تخلَّقت وتشكَّلت وترعرعت؟ فقال، وإسحق يومئذ يسكن فضاءات مدينة العيلفون، قال: «كان والدنا يأتي لنا في المساء «بالباسطة» وكان إخواني يحتفون بهذه الحلوى كما يحتفي كل الأطفال»، يقول: «فكنت احتفي بالجريدة التي تُلف بها هذه الحلوى، أجففها أطبقها لأقرأها». والأخ الصديق إسحق حالته «متأخرة بعض الشيء» وهو يروي أنه يلاحق الجرائد العالقة بالشجر والمدر. لكن صاحبكم، صاحب الملاذات، عليه من الله الرضوان، قد وجد نفسه (كثير الشخبطة) منذ أن تعلم كيف يمسك هذا القلم. { لكني أستطيع أن أؤرخ للممارسة الحقيقية بصراحة تاريخية مع الأخ الشاعر على محمد يس. وعلي يس هذا خريج معهد الأشعة وآداب القاهرة ومعهد البريد، قد ذهب يوماً لصحيفة ألوان (بعمارة كِشّة) بالقرب من مسجد فاروق بالخرطوم، بالمناسبة حسين خوجلي قد بدأ من هنا قبل أن يصعد الى برج الصحافة والفيحاء، فقرأ حسين قصيدة الطالب علي يس فاحتفى بها، وكان هنالك باب شهير بالصحيفة تحت عنوان «ألوان تكتشف شاعراً»، ومُذ يومها فقد قُبض على الشاعر علي يس متلبساً بالشعر والكتابة ولم يُفك أسره حتى يوم الناس هذا. ولكم أن تتخيلوا باقي القصة التي انتهت الى دراما «ليلة القبض على الملاذات»، وكنت يومها قد وصلت الى مؤسسة بنك التضامن «موظفاً مصرفياً»، وبالمناسبة إن أشهر الكُتّاب الصحفيين السودانيين لم يتخرجوا في كليات الإعلام والصحافة؛ فالأستاذ حسين خوجلي «خريج فلسفة»، عثمان ميرغني «مهندس حاسوب»، إسحق فضل الله «مهندس طرق وجسور»، البوني «أستاذ علوم سياسية»، زهير السراج «طبيب بيطري». فلم أكن بدعاً من رُسل الإعلام، ويحفظ لنا التاريخ أن الراحلة «عائشة الفلاتية» قد سُئلت يوماً وهي في زيارة الى القاهرة، إن كانت تجيد الكتابة والقراءة؟ فلم تكتفِ بإجابة أنها لا تجيد القراءة والكتابة، فقالت: «الكاشف أخوي برضو ما بيعرف يقرأ ويكتب»! فقيل إن المرحوم الكاشف قد قابلها بالمطار وقال لها: «الله يكشف حالك.. سألوك من الكاشف»! { لا أتصور أن أحداً سيقابلني في «مطار الأهرام الدولي» ليعيد معي إنتاج حكاية الكاشف، لكن الكاشف الذي لم يقرأ ولم يكتب هو من أجبر أي مطرب سوداني يريد أن يدخل الى هذا الميدان أن يبدأ بتكرار «أغنيات أُمِّي المطربين السودانيين»، بل لقد علمت أن عمليات إخضاع موسيقى وتوزيع إنتاج الراحل الكاشف قد أرهقت، فيما بعد، معهد الموسيقى والمسرح وكل خريجي كليات الموسيقى العالمية. { فالتاريخ والبطولات في السودان «يصنعها البسطاء»، ومعظم الاختصاصيين في السودان «مجرد كومبارس» لأبطال التاريخ الحقيقيين. { مخرج: انتهت المساحة المتاحة ولم تبدأ قصتي بعد.. انتظرونا..