{ ساد صمت غريب في أرجاء منزلنا عقب صلاة المغرب وحلَّق فوق غدد الذوق في ألسنتنا طعم مُر؛ فقد تعسّرت ولادة (غنمايتنا) البيضاء ملكة الأغنام في مراح أمي وصاحبة أعلى نسبة إنتاج للبن في اليوم، وسيدة النسب العريق في سلالة الأغنام الموجودة بالمنزل، كما أنها الوحيدة المحظوظة بإنجاب التوائم في الأغنام. لهذا لم تشك أمي للحظة أن عيناً حارة قد أصابتها من الأغنام، والجيران، ونحن كذلك لم نسلم من الاتهام. فطوال ساعتين متواصلتين كانت تئن بصمت وصبر، ولم تفلح معها محاولاتنا البائسة بالدعاء والمساعدة وتجفيف دموعها إذ أن الغنم لهنّ دموع في تقليل ألمها أو مساعدتها على الطلق. فأطلقت أمي صافرة الإنذار الحمراء باستدعاء الأكثر خبرة، فذهبنا حيث يقطن (سيد اللبن) بمزرعة ممتلئة بالأغنام والأبقار، وسط الحي، نسأله الحضور سريعاً، باعتباره خبيراً في الشأن الغنمي، لكنه زاد من هلعنا بقوله: «يجب نقلها الى الطبيب البيطري». وعرفنا أن الأمر معقد لدرجة الاستعانة بالطبيب البيطري الذي نسمع عنه قصصاً فقط في السابق. وذهبنا نحمل (غنمايتنا البيضا) وأملنا في نجاتها هي وخسارة التوأم. لكنه شاطر جداً فقد نجح في تخليصها من ألم الطلق، ثم شرع في توليدها، ليخرج التوأم لزجاً مترنحاً، سليماً كما أمه، التي بعد حين يسير خرجنا نحملها تميمة بيضاء تثبت قوة العلم والمعرفة على الخبرة، وباتت واحدة من علاقات امي الممتدة، معرفتها بطبيبها البيطري، تثق به وبمساعدته في حقن الأمصال لكتاكيت دجاجها وحمامها الصغيرة وهو يخبرها بعدم تركها الأغنام ترعى الأكياس البلاستيكية كي لا تتعسر ولادتهنّ لاحقاً. { ولاحقا وبعد سنوات ليست كثيرة انتشر بين الناس المفهوم الصحيح لمعنى طبيب بيطري، بمساعدته الأغلبية الصامتة (الحيوانات أجمعين) التي لا تقوى على شكوى أو المطالبة بحقوق. ينجز ما تركه الناس للفوضى والعادة، بطريقة علمية صحيحة. فأصبحنا نشاهد عيادات قرب المناطق السكنية؛ فقد كانت أبعد، وصرنا نعتاد أن يتخرج شاب أو شابة في كلية البيطرة، بملء استمارة قبول رغبتهم فيها. وفرغت مواشينا المصدرة والمستهلكة محلياً من كثير من الأمراض والمشاكل الصحية، التي نسمع عنها في البلدان القريبة والبعيدة ونجحوا بكامل أدائهم في عدم نقل المرض من الحيوان إلى الإنسان بتعريف الناس الطرق الصحيحة لتربية الماشية والطيور، تحديات الحُمى الصدفية وأنفلونزا الطيور والخنازير، ويزيد حالياً شأن الطبيب البيطري علواً باستضافة السودان لمؤتمر التعليم الطبي البيطري في الوطن العربي مطلع مايو القادم، في إطار الاحتفال باليوم العالمي للطب البيطري، على مدار عام 2011م القادم كتزامن حدث مع مرور (250) عاماً على أول مدرسة لتعليم الطب البيطري في العالم «بفرنسا». { واختيار السودان كواحدة من الدول التي تستضيف حدثاً مهماً كهذا للدور الكبير الذي يقوم به الأطباء البيطريون في السودان في رفع الوعي الصحي ومكافحة واستئصال الأوبئة المتنقلة من الحيوان للإنسان. ولا شك في الدور الذي يلعبونه باتحادهم في رفع الأداء الإنتاجي وإنتاجية وسلامة الغذاء ذي الأصل الحيواني شاملاً الثروة السمكية. إن ضرورة الاهتمام بالطب البيطري ليست ترفاً لتعسُّر ولادة بهيمة أو قطة صغيرة أو كلب مدلل لأسرة ميسورة؛ إنما لضرورة رعاية ثروتنا الحيوانية التي تميزنا كدولة عن كثير من الدول في خارطة الوطن العربي والأفريقي. ولا شك كي يستمر ضجيج أقدام الأنعام في أرضنا سلسلة غذائية مستمرة بالنبات بعد/ قبل الحيوان، وكي يتحول طعم المُر في ألسنتنا من غلاء أسعارها اليوم الى حلو بدوام إنتاجها الصحي وسلامتها ونحن من عين الفقر الحارة.