كانت أسهل الإجابات على الرجل أنه غير مكترث لكونه أصبح في صدر قائمة المتهمين بالغلو في الدوائر السلفية، وهو الذي يكاد يُجمع البعض علي أنه أصبح مثيرا للجدل سيما وأنه تنقل في الزنازين والمعتقلات وتعرض لكثير من المضايقات والملاحقات الأمنية وخرج من المملكة العربية السعودية (مغاضبا). أصدر حزمة من الفتاوى التى سلطت عليه الأضواء بشكل مكثف. وهو أحد أبرز قادة الرابطة الشرعية للدعاة والعلماء ورئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم. ويعد الشيخ الدكتور محمد عبد الكريم إمام أحد المجاهرين بالهمس ما يجعله قبلة لفلاشات الصحفيين، وهو ما قد يفسّر لنا جزئياً مسألة تحوله من ظاهرة إلى تيار وسط الشباب، يحاول التعبير عن نفسه بجرأة مرعبة أحيانا. في ظل نمو فراغ المخاوف من المجهول ووسط النُذر السوداء المرتسمة في أفق البلاد؛ يجيء هذا الحوار مع الشيخ محمد عبد الكريم، مقرئ وخطيب مسجد المجمع الإسلامي بالجريف غرب.. فتحنا معه مغاليق الرابطة الشرعية التى نزلت للشارع نهار الجمعة الماضية مؤيدة تطبيق الشريعة الإسلامية وطرد الحركة الشعبية من الشمال. حاولنا الاقتراب منه والتعرف على آرائه بصراحة في مجمل القضايا السياسية والفقهية، وحكايته مع برنامج (صناعة الموت) بقناة العربية الذي ظهر فيه مؤخرا، وحقيقة طرده من المملكة العربية السعودية، وآرائه حول عدد من القيادات السياسية بالبلاد، تحديداً الترابي والصادق المهدي، اللذين انتاشتهما سهامه المصوبة. مع أي طرف من نقيضي المصير يقف الرجل؟ هل صحيح أنه من المناصرين للمحاكم الإسلامية في الصومال؟ هل هو سيف الحكومة المسلط على خصومها متى ما شعرت بالخناق سحبته من غمده؟ من هو محمد عبد الكريم خارج الإطار الذي عُرف به؟ كل هذه القضايا وغيرها (فجّرناها) تحت منبره المتحرك فماذا قال ل(الأهرام اليوم)؟ { أحياناً يبدو أنك تقف موقف الانفصاليين من قضية الجنوب ولكنك في نفس الوقت تقول بأنك لست من دعاة تقسيم السودان، فكيف يستقيم ذلك؟ - إن حكم البلاد بمشروع السودان الجديد العلماني الذي يضرب الهوية الإسلامية ويعتبر أن الإسلام في السودان هو إسلام العرب فقط وأن القبائل الأخرى لا علاقة لها بالإسلام بهذه البساطة، هذا المخطط الأول، فإذا عجزت الحركة الشعبية عن تنفيذ مخطط السودان الجديد دفعة واحدة فإنها تمرحل هذا المخطط إلى الخطة الثانية (ب) ولذلك لا يمكننا أن نساعد الحركة الشعبية بدعوتها إلى الانفصال على الخطة (ب) وأنت إذ تدعو للانفصال مباشرةً فأنت تساعد الحركة الشعبية في تمرير خطتها رقم (ب) وهي تريد الانفصال لتهيء نفسها من جديد للانقضاض على السودان كله. وفي تقديري أن الذي جعل الانفصاليين يقفون هذا الموقف هو شعورهم أن الحكومة لا يمكنها أن تنفك من هذه الاتفاقية وأن تنبذها وتكون في حل منها؛ فربما تظن الحكومة أن هنالك مفاسد كثيرة تترتب على ذلك، لكن في الحقيقة نحن لو نظرنا لوجدنا المفاسد التى تقع في هذه المرحلة، مع نبذ الاتفاقية، هي أقل بكثير من المفاسد التى ستقع بعد الانفصال. { في جانب آخر تعرضت للدكتور الترابي بهجوم شديد وصل مرحلة التكفير والاتهام بالزندقة، ألم تكن قاسياً عليه في ذلك الهجوم؟ - بخصوص دكتور الترابي فالرد عليه ليس جديدا وإنما من قديم، والذين اتهموه بالزندقة كثيرون حتى من الحركة الإسلامية نفسها وعلى رأس هؤلاء الدكتور جعفر شيخ إدريس ورئيس الرابطة الشيخ الأمين الحاج وهو عضو سابق في الحركة الإسلامية. كل هؤلاء أصدروا فتوى بحق الترابي واتهامه بالزندقة للأقوال التي جاء بها. وهذا الاتهام لم يأتِ من فراغ وإنما استند الى أقوال الترابي نفسها. فالترابي تجرأ جرأة كبيرة على ثوابت الإسلام حينما ادعى أن المسلم يجوز له أن يبدِّل دينه وقال إن النصارى ليسوا كفار ملة ونظرية (داروين) في أن أصل الإنسان قرد وهى نظرية لا تعارض القرآن الكريم حسب قوله، وتجويزه زواج المسلمة من كتابي ونفيه الحجاب في محاضرة بورتسودان وغير ذلك، دعني أسألك: ما موقف العلماء من هذه الأقوال؟ هل مطلوب منهم أن يصفقوا له ويحييوه أم مطلوب منهم أن ينكروها وينزلوها المنزلة الشرعية؟ { ولكن الترابي قال بأنها مجرد اجتهادات وهي ليست جديدة بينما أنتم أخرجتموه من الملة. دعني أربط لك حالة الترابي وغيره بمنشور أخرجته في العام (1995م) بعنوان «التكفير الشرعي والتكفير البدعي» فهل تكفير الترابي والصادق المهدي ومحمود محمد طه تكفير شرعي؟ - التكفير الشرعي والبدعي يأتي في نفس السياق الذي تحدثت عنه بخصوص الترابي، بمعنى أن التكفير ليس كله جريمة أو حراماً، وليس كله مباحا وإنما التكفير حتى يكون صحيحا له شروطه وينبغي أن تنتفي موانعه وهذا ما قرره الفقهاء والعلماء في كتب الفقه المطولة في أبواب الردة، والردة لا تكون حكما على من أعلن خروجه من الإسلام بالكلية بل الردة أيضا تكون لمن ينتسب للإسلام أصالة؛ بمعنى أنه يشهد الشهادتين وفيه بعض مظاهر الشعائر التعبدية ومع ذلك يحكموا عليه بالردة لأنه قال قولا ليس محلا للاجتهاد. فيا أخي الاجتهاد له شروطه وله حدوده، أما أن يأتي الإنسان بما ليس في الإسلام ويدعي أن هذا محض اجتهاد فهو ليس صحيحا، وأنا أضرب مثلا واضحا بتاريخ السودان الحديث على واقعة شهد العلماء فيها بأنها ردة رغم أن صاحب هذه الواقعة كان من رموز التدين والتصوف في السودان وهو محمود محمد طه، فهل كان ما يقوله محمود والجمهوريون من زندقة مجرد اجتهاد؟ ليس مجرد اجتهاد فقد حكم القضاة عليها بأنها ردة وكفر وزندقة. { ولكن المحكمة الدستورية عادت وأبطلت ذلك الحكم؟ - أنا أعتبر أن ما حدث بعد محكمة الردة في عهد الأحزاب كان أمرا سياسيا، لم يكن منطلقه الشرع وإنما كان منطلقه المعارضة لكل ما يمت لقوانين الشريعة بصلة. ولكن حين ننظر إلى حيثيات الحكم آنذاك وما كان من العلماء في الاتجاهات الإسلامية المختلفة نجد أنهم أجمعوا على صحة ذلك الحكم حتى العلماء الذين كانوا في الخارج. ثم أمر آخر حتى لا يُسيِّس الموقف من الترابي، ليس أهل السودان وحدهم الذين حكموا على الترابي وإنما هنالك علماء في الخارج حكموا على أقواله ومن ذلك رسالة الشيخ عبد الله بن جبريل رحمة الله عليه وردود مفتي السعودية وبيان علماء اليمن، فهل كل هذه المواقف سياسية وما مصلحة هؤلاء جميعا ليتجنوا على الترابي مع أن بعضهم كان يعتبر ما يقوم به الترابي في خدمة ومصلحة الإسلام، ولذلك العلماء يتحرجون كثيرا أن يطلقوا على شخص كلمة كافر؛ فهي سلاح ذو حدين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من قال لأخيه يا كافر ولم يكن كذلك إلا حار عليه». { الصادق المهدي أيضاً له فتوحات في الفكر الإسلامي بخصوص المرأة والجنس والفن، وقد طالب قبل أيام بإدخال مادة الثقافة الجنسية في المناهج الدراسية لطلاب المدارس، فما رأيك في ذلك؟ - طبعا في ما يتعلق بموضوع الصادق المهدي فليست هذه المطالبة فقط وهي مسألة جدل تختلف وجهات النظر فيها ونحن يمكننا أن نضع الثقافة الجنسية في إطارها الصحيح اللائق بالمجتمع المسلم. لكن الصادق المهدي عنده اعتراضات على أصول وثوابت في الشريعة الإسلامية وأصدرت الرابطة في ذلك بيانات في ما يتعلق برسالته الأخيرة (الشريعة ما بين الأصل والعصر)، التى أخرجها في الاعتراض على قسمة التركات، وأيضا مواقف مختلفه أخرى. فالموقف من الصادق المهدي أكبر من دعوته إقرار مادة الثقافة الجنسية في المناهج الدراسية. { هنالك من يعتقد أن تصاعد هجومكم على الصادق المهدي والترابي نوع من الحسد باعتبارهما مجددين ولهما أثر كبير في المجتمع ولا يلتفتان إليكم أبدا؟ - هذا تبرير عارٍ من الصحة، فالحسد يكون بين الأقران؛ السياسيون يحسدون السياسيين ممكن، العلماء يحسدون العلماء في هيئات ومؤسسات معينة، لكن من المستبعد أن العلماء الذين ينشدون صلاح المجتمع ويحبون الخير له أن يحسدوا سياسيا أو زعيما، بالعكس في هذا اليوم لو أعلن الترابي براءته من هذه الأقوال؛ فهو منا ونحن منه ونقول مثل ذلك أكثر بالنسبة للصادق المهدي. فإذا انصلح حال الزعيم والقائد فهذا أحب إلينا لأنه بسبب ذلك سينصلح حال أتباعهم، لكن نحن لا يمكننا أن نتغافل عن هذه الأقوال التى تتعدى على أصول الإسلام، فلابد من بيان الحق فيها. { قناة (العربية) قبل أيام بثت حلقة من برنامج (صناعة الموت) أدليت فيها أنت بشهادة ذكرت فيها أن الدكتور عبد الحي يوسف من مؤسسي التيار السروري في السودان. وقد سارعت هيئة علماء السودان بإصدار بيان هاجمت فيها القناة. ما هي ملابسات تلك القضية؟ - أولا قناة (العربية) لم تكن أمينة ولا صادقة في هذا الفيلم الوثائقي (صناعة الموت)، وهذا يؤكد لنا ما انطوت عليه تلك القناة من الكذب الفاضح؛ لأن القناة حين جاءت إلينا حددت إطار الحوار معنا وقالت إن البرنامج بعنوان (الإسلاميون في السودان) وهذا ما ذكره لي محمود عبد الكريم وعندما سألته قال لي إنه سيدير حوارا مع كافة الإسلاميين في القضايا المختلفة ولم يكن الحوار للتحقيق في مسألة السرورية ولم يفصح لنا عن ما يريده من وراء هذا الحوار ولم يتحدث عن صناعة الموت، وكان همهم في الحوار أن يوقع بين الرابطة الشرعية وهيئة علماء السودان بزعمهم أن هنالك تشاكسا وتخاصما، وقد نفيت له ذلك، وقلت له الساحة السودانية تسع الكثير من الهيئات العلمية، بل الذين في الرابطة الشرعية هم أيضا أعضاء في هيئة علماء السودان، وفي السياق جاء الحديث عن الدكتور عبد الحي يوسف مع أنه ليس له صلة الآن بالرابطة الشرعية من ناحية العضوية باعتبار أنه انتقل لهيئة علماء السودان وأصبح نائبا لرئيس الهيئة، لكنه في الحقيقة من مؤسسي الرابطة. ثم حاول البرنامج أن يشوِّه صورة العلماء القائمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن الشريعة، حاول أن يرميهم بالسرورية وهي جماعة وهمية يصطنعها هؤلاء من باب تأطير هذا التيار في تنظيم خفي ليقولوا للناس إن هؤلاء يخفون تنظيما ويتوارون، مع أن أقدارهم ومواقعهم وجهودهم أكبر من حيلة الضعفاء. الأمر الآخر حاولت (العربية) الدفاع عن الشيعة في السودان وأرادت أن تقول إن هذا التيار يهاجم الشيعة ويحظر وجودهم في السودان، وهو أمر صحيح؛ ولكن أن تدعي العربية أن العلماء قاموا بقتل الصحفي «محمد طه محمد أحمد» في هذا السياق فهذا أمر يستنكره كل متابع للأحداث في السودان. وأنا أقول إن العربية حكمت على نفسها بهذا الفيلم بالكذب الفاضح؛ لأن كل سوداني يعلم ملابسات مقتل «محمد طه» وكان أولى بالعربية أن تكون صريحة في بيان الأسئلة وطبيعة هذا البرنامج وإيصال الحقيقة للناس، ولكن على نفسها جنت براقش. { من أين تستمد الرابطة الشرعية شرعيتها طالما أن الحكومة رفضت تسجيلها في وزارة الأوقاف؟ - الحكومة لم تعلن لنا قط رفض التسجيل وإنما كلما رجعنا إليها تعدنا بالتسجيل وتتفاوض معنا في هذه الرابطة من جهة الإسم ومن جهة بعض الأعضاء من ناحية أخرى، لكن لم يكن هنالك رفض قاطع. { في نفس الاتجاه هل صحيح أنك خرجت مطرودا من المملكة العربية السعودية واتُهمت بأنك تحمل أفكاراً (قاعدية)؟ - بالنسبة للمملكة العربية السعودية ليس هنالك منع لأي من المشائخ والعلماء في دخولها وهم يذهبون للعمرة والحج، ولا أظن أن المملكة تلتفت لمثل هذه الشائعات. { بخصوصك أنت تحديدا، هل صحيح أنك طُردت من المملكة لأسباب مماثلة؟ - هذا كان لي ولغيري في دول الخليج عموماً في فترة الحرب، حرب الخليج الثانية، لكن الأمور تغيَّرت الآن والظروف السياسية والأوضاع تغيرت ولذلك لا يوجد هذا المنع. { من الملاحظ أنك بدأت تتراجع عن دور المرشد الروحي لشباب المقاتلين في الصومال، لماذا؟ - أنا لم أكن قط مرشداً ولا موجهاً ولكن كنت ضمن من يؤيِّد المحاكم الشرعية في الصومال ولا أزال إلى هذا اليوم أطالب بتطبيق الشريعة في الصومال وضرورة خروج القوات الأفريقية من الصومال، ومع ذلك فإنني أدعو بشدة لحقن دماء المسلمين وألاّ يكونوا مطيَّة للاستعمار وحدوث الاحتراب بين الصوماليين. { هل انتهت قضيتك مع الحزب الشيوعي والشيوعيين أم أنك لازلت تمارس التحريض عليهم؟ - التحذير من الشيوعية ومنهجها وما انطوت عليه من الإلحاد باقٍ ومستمر ولا يمكن لأي موقف أن يحد من هذه المسألة، ولازلنا حتى اليوم نحذر من التيارات اليسارية والعلمانية كلها، لكن الإعلام في تلك الفترة سلط الضوء على الخطب والبيانات وهو واجب شرعي وليس من باب التحدي واستعراض القوة. { هنالك من يقول إن الشيوعيين السودانيين يُصلُّون ويصومون ويحجِّون الى بيت الله الحرام، فهل كنت تقصد تكفير الأفراد أم النظرية؟ - كنت أريد النظرية الماركسية؛ فالشيوعية إلى هذا اليوم تعتمد على تلك النظرية وتعتبر أنها صالحة للتطبيق إلى يومنا هذا؛ رغم فشلها في منشئها. وبالنسبة لصلاة بعضهم وقيامهم بالشعائر التعبدية فهذا لجهلهم بالشيوعية، وقد وقفت على موقع الملاحدة العرب في قضيتنا مع الشيوعيين وقد قال أحد الملاحدة إن الشيوعيين السودانيين إذا كانوا يصلون ويصومون ويعبدون الله فهم يستحقون ذلك الهجوم.