{ التقيت منذ فترة اللواء أبودومات، مدير شرطة مرور الخرطوم، وهو يقود عربته بنفسه مستخدماً «حزام الأمان»، وبرغم أن اليوم كان جمعة وأن الرجل يقود عربته داخل الحي في طريق فرعي بالقرب من منزله، برغم كل ذلك كان «رجل المرور الأول» يقود سيارته مستخدماً حزام الأمان، قلت له مداعباً: «يا سعادتك.. نحن في الأيام الرسمية وفي طرقات المدينة لم نعتد بعد على استخدام هذا الحزام». قال لي الرجل اللواء: «أنا منذ عشرين عاماً استخدم هذا الحزام حتى أصبح لي عادياً». { وفي أخبار أمس الأول أن فخامة الرئيس البشير وسعادة الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين شوهدا داخل سيارتهما وهما يستخدمان «أحزمة أمان»، الفريق أول عبد الرحيم يقود السيارة وهو يستخدم الحزام وإلى جانبه فخامة المشير البشير وهو أيضاً يستخدم الحزام، لم يستنكف السيد الرئيس أن يستخدم هذا الحزام وهو يومئذٍ لا يقود السيارة وإنما يركب إلى جانب السائق، كما لم يستخدم سلاح وظيفته الكبيرة ضد هذا الحزام، وهو يعلم أنه ليس بمقدور أحد أن يوقفه على قارعة الطريق لجريرة عدم استخدام هذا الحزام، وهذه «ثقافة رئاسية ممتازة»، فلئن كان رئيس الجمهورية يلتزم هذا الحزام، ورجل المرور الأول السيد اللواء أبودومات، والوزراء والمستشارون وكبار رجالات الدولة يطبِّقون هذه اللائحة المرورية على أنفسهم، فسيكون هذا الأمر ممارسة جماهيرية، وليت إعلام الشرطة يعرض هذه النماذج الرئاسية على شاشة التلفزيون حتى تعلم قريش وغير قريش أن في دنيا لوائحنا وقوانيننا نماذج باهرة، بحيث أن القرار يُمارس ويُطبَّق من أعلى قبل أن يتنزَّل إلى عامة الشعب. { أذكر أنه في ذات صيف كنت أقود سيارتي بطريق فرعي بوسط الخرطوم، وما كنت أعلم أن هذا الطريق الفرعي «اتجاه واحد»، خاصةً وأن سيارة باهرة (مظللة مدللة) تسير أمامي، وكانت دهشتي بالغة عندما استوقفني رجال المرور الذين كانوا يختبئون في نهاية الطريق، أوقفوني بجريرة (أني سرقت الطريق)، فأشرت إلى تلك السيارة التي مرت من أمامهم ولم يجرؤوا على توقيفها، فقلت «ما لهؤلاء القوم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد»، اللوائح لنا ولسوانا، فقال لي أحدهم: «يا زول إنت شغال شنو؟» فقلت لهم: «أنا شغال صحفي»، فقال لي: «إتفضل فوت». كان ذلك في فترة سابقة قبل أن تشهد الخرطوم (حوادث باهظة) مثل أحداث العاشر من مايو التي حاولت فيها حركة العدل والمساواة غزو أم درمان، ثم حادثة اغتيال زميلنا الصحفي المرحوم محمد طه محمد أحمد وغيرهما من الحوادث، الحوادث التي استُخدم فيها «التمويه بالسيارات المظللة»، مُذ يومها والشرطة لا تتهاون في إيقاف أية سيارة «مشبوهة» بالتظليل والتضليل حتى لو كان يقودها السيد وزير الداخلية شخصياً. كان في الماضي «القريب الغريب» عليك فقط أن تدفع مبلغ خمسمائة ألف جنيه لتستمع بتظليل سيارتك طوال العام، وعليك فقط أن تبرز تصديق التظليل لرجل المرور دون أن يكون له الحق في أن ينظر إلى ما وراء التظليل! { بالأمس كنت أقود سيارتي بحلة كوكو عندما أشار اليّ رجل المرور (لأُجنِّب) بغرض التفتيش، وكنت أربط حزامي جيداً وأتحصَّن بكل المستندات المرورية، من رخصة وترخيص وأحزمة، فلم يملك رجل المرور إلا أن يقول لي: «إتفضل يا ملك»، وبرغم أنه قد أطلق هذه العبارة على عواهنها إلا أنني قد شعرت أنني بالفعل «مَلِك في هذا الطريق»، لقد استحوذت على كل مستندات امتلاك الطريق، كما لم أتبرَّم من عملية الإيقاف؛ فالشرطة تمارس صلاحياتها. { مخرج.. وكلمة «يا مَلِك» هذه هي التي دفعتني لأريق هذه الأحبار، لو جاءت على طريقة (ملكية الفيتوري).. «دنيا لا يملكها من يملكها.. أغنى أهليها سادتها الفقراء».