ظلت الأغنية السودانية منذ ميلاد أغنيات الحقيبة عام 1919م على يد الفنان الكبير الحاج محمد أحمد سرور، حينما ابتدر هذا اللون من الغناء برائعة شاعر السودان الكبير إبراهيم أحمد العبادي «ببكي وبنوح وبصيح للشوفتن بتريح».. ظلت الأغنية السودانية في شقها العاطفي غارقة في لجة رومانسيتها، فقد عبرت عن أشجان العشاق وأنابت عنهم في الإفصاح عن دواخلهم وتولت مهام توصيف الحالة الشعورية للعاشقين، فتحدثت عبر متونها عن جراحاتهم وأحزانهم في لحظات الهجر والنأي والصدود، كما تناولت مثلها مثل غيرها، وعلى منوال قصائد الغزل العربية القديمة، أوصاف المحبوب، وأبانت محاسنه الخلقية والخلقية، وأبدعت في إطلاق التشبيهات المختلفة، فما تركت ملمحاً جمالياً إلا ونعتت به الحبيبة، بدءاً بالقمر ومروراً بالكواكب المختلفة، وانتهاءً بالأزهار والعصافير، وكل المخلوقات البهية، واتخذت الأغنية السودانية في رحلتها العاطفية من الأنعام والطيور ملاذات للشكوى، بل ووسائط تواصل مع الحبيب عند نأيه أو هجره أو صدوده. ولم يختلف الجيل الثاني من شعراء الغناء السوداني عن سابقيهم من رواد شعر الحقيبة، فاقتفوا أثرهم في ما يسمى بالأغنية السودانية الحديثة، التي كان من روادها الشعراء: حسين عثمان منصور وحسين بازرعة واسماعيل حسن والسر دوليب، ومن بعدهم محمد يوسف موسى ومحجوب سراج واسحق الحلنقي وعلي شبيكة، إلى آخر حبات العقد النضيد من شعراء الغناء الجميل، يواكبهم بعض من المخضرمين على رأسهم محمد بشير عتيق وعبد الرحمن الريح، إذ لم تختلف أغنيات الجيل الجديد في مضامينها عن الرواد، فقد كتبوا أغنيات عاطفية رقيقة مملوءة بالحنين وتقديس المحبوبة والتغزل في محاسنها شكلاً ومضموناً، فأبدعوا في وصفها والتغزل فيها ومدحها بأجمل الأوصاف، وصادف ذلك بروز الجيل الثاني من المطربين أمثال عبد الحميد يوسف والكاشف وحسن عطية وأحمد المصطفى وغيرهم، فازدانت الأغنية بألحانهم الشجية ولبست حلة زاهية من الألحان الرائعة، ثم تواصلت هذه العاطفة الوجدانية من خلال اشعار متأججة من الحنين والصبابة، وكان عرابها السر قدور وأبو قطاطي وعزمي أحمد خليل وهاشم صديق وفضل الله محمد والصادق الياس والطاهر إبراهيم وعثمان خالد والتيجاني حاج موسى وهلاوي، الذين صاغوا المعاني الجريحة للحب عبر الخاطر المكسور، فكانت أغنيات عزمي أحمد خليل التي كانت ملاذاً آمناً ودافئاً للعشاق وهم يضعون جراحاتهم تحت الوسائد مثل أغنية «يعني ما مشتاقة لي ولا ما عارفة العليّ.. لو خلاص خليتي ريدي يكفيني خاتمك في ايديّ»، وكانت أجمل قصائده الرائعات.. (أسبوع تمام وانا كنت عايش في الخيال أنسج حروف سيالة زي دمعاً حزين من عيني سال) وتفاعله مع الطبيعة (أنا أصلي ما ردتك براي.. رادوك معاي ناس الارض وطيبة الارض وزرع الارض حتى الظلال.. أنا أصلى ما بشتاق براي بشتاق معاي الليل وسرى الدافنو فيه والانعزال..). وللأستاذ التيجاني حاج موسى شكوى للأحبة والمقهورين وهو يستجدي عطفهم و(طبطبة) المشاعر: (بشكي ليكم يا مظاليم الهوى.. أصلي مجروح مرتين.. يمكن ألقى الزيي فيكم عاش جراح الحب واتعذب سنين..). وللبروفيسور السر دوليب (داوم على حبي واسأل عن قلبي.. ما تفكر تنساني..)، ومن أجمل أغنياته على الإطلاق (مسامحك يا حبيبي.. مهما قسيت عليّ.. قلبك عارفه ابيض.. وكلك حسن نيّة). ولإسماعيل حسن: (لو بي همسة قول أحبك.. لو ترسل لي سلامك .. قول أحبك).. ولعلي شبيكة: (وحياة الشجن وأغلى الذكريات .. ما تردد كلام يحيي الفات ومات وما تخلي العيون تبكي الأمسيات).. وللفنان الراحل صالح الضي: (عيش معاي الحب.. عيش معاي حناني.. خليني أنسى سنين عشتهم وحداني).. ختاماً يظل الحب مساحة تفضي إلى عمق القصائد الباكية والحروف الدامعة، وقد اخترنا هذه النماذج لتعميق أن الحب الذي يحتمل الألم يظل أكثر صدقاً ويجد القبول.. والاحترام.