سعة تخزين ذاكرتي أقل من (1,.) ميقا بايت! هذا بحساب الهندسة الإلكترونية، أما بحسابنا العادي فهي مثقوبة، لذلك لا أحسن أبداً إدارة عداء بيني وبين آخرين، لنسياني دائماً ما هو سبب استعدائي لهم؟! دعك من سالب نسياني المستمر ل (أين) وضعت هاتفي النقال وأي الأيام هذا اليوم، وأين الشارع المباشر لبيت أختي وأخي..! وهذا ليس (زهايمر)، إنما سعة ضيقة لذاكرة مثقوبة كمصفاة الدقيق ذات الثقوب الواسعة لتكفي بإمساك السوس من النزول مرة أخرى إلى الدقيق المغربل! ثم ألا يكفي أنني مازلت اذكر الأسماء والوجوه حتى الآن وبعض تواريخ الميلاد؟! لهذا تولّدت لديّ رغبة، ذكية أظنها، في فتح ملفات تخزينية لأشيائي وأماكنها، وبالطبع تذكير هاتفي بأهم التواريخ والمناسبات، ومن بينها تاريخ تسليم المادة الصحفية، وأي برنامج صحفي تتم دعوتي إليه. هذه الملفات موجودة على سطح المكتب في جهاز الحاسوب، وكي لا أفقدها لأي سبب تكنولوجي - كأن يصاب الجهاز بفيروس أو إنسان حاسد - جعلت الخطة المساعدة ورقة ثابتة ملصوقة داخل الدولاب، وبما أنني افتحه بشكل راتب فإنني صرت أتذكر جيداً بل وعرفت أماكن الثقوب في الذاكرة، وساعدني ذلك على سد بعضها بطين التكرار أو عجين التخزين الممتاز. وميزة أن أكون (نسّاية) كفعل مبالغة لنسياني، جعلتني أغدق الكرم فيها لتقيني شر الذكريات المرّة أو الحزينة حتى، رغم أنني لم أنجح في نسيان مهرجان البكاء الحار يوم توفى والدي، وأحاول أن أثقب المكان الذي يحمله في ذاكرتي، لكنه جلمود صخري من البنيان لا يهتز لبالغ محاولاتي السابقة، ومع ذلك أحسنت العيش والتعامل معه كمادة خام أصنع منها ما يجب وأحب من بضاعة الدموع.. كلما فاجأنا المساء بعويل لرحيل جار أو خال أستدعيها كي تكون صوتي المجامل، فتراني عيونهم موجوعة معهم، وهذا من فضل ذاكرتي! وذكرياتي غير القابلة للتصفية هي المفرحة والمدهشة، حيث أنني أحاول بقدر الإمكان ألا اهتز شديداً بالضحك أو البكاء، لتعبر الثقب، فأنساها، وتقبع الثقيلة والكبيرة تسد مكانها وتخنقني، وأشجع ذاكرتي بمنحها حلوى الروح اللذيذة والطرية، إذا نشطت خلاياها بمصادفة سعيدة لذكرى حدث قديم، كولادة ابنتي البكر - حفظها الله - فكلما ذهبت أبارك مولوداً جديداً، أجدني على سطح مكتب الحوارات أفتح ملف ولادتها الغريبة.. حسناً، أنا الآن أمسك ذاكرتي من عدم تذكره؛ وأتذكر كل صغيرة تفصيلية وكل شاردة مرت سهواًً على نص الحدث، كرائحة بخور أم عطر جسد السيدة (حليمة)، وهي القابلة التي تبرعت بعد أن توضأت لصلاة المغرب عقب انتهاء ورديتها، بتسليم طفلتي لي - هاهي ذاكرتي تمتطيني لقول الحدث كي تحصل على حلواها! إن حلاوة الذكريات تكمن في أنها ذكريات! كيفما كانت حلوة أم مرّة، لا تبلعها ثقوب الذاكرة فتسد مجاريها دون تسليك، لتفوح بكل حرج روائح عفونة الذاكرة، وتصبح بلا إرادة منك، ذا رائحة كريهة مسدودة قنوات ذكرياتك على حدث قذر - مهما بلغت درجته من الحزن النبيل - يأبى أن تتخلص منه ثقوبها بالنسيان! ويبرر البعض تسمية الإنسان بإنسان لأنه ينسى، فماذا يسمى إذا كان صاحب ذاكرة صلدة كالفيلة والإبل، فكما علمت أنها، كبعض أنبل الحيوانات وأكثرها صمتاً وصبراً، لا يعرف النسيان لذاكرتها درباً من الروائح وحتى الوجوه! ووجه الذاكرة المحظور على صاحبها مشاهدته، دعك من الآخرين، هو ذكريات الأفعال المخزية، كالخيانة مثلاً، إن كانت خيانة وطن أو زوج او أسرة أو حتى علم! وهذه وجوه لا تمر من الثقوب أبداًَ، يبيعها أصحابها كذاكرة سقطت عمداً من حقائب أيامهم المعدودة، يبايعون بها النسيان كي يأخذها عنهم فيصبحوا (نسايين)، أو يشترون بها ثمن تسليك مجاري الخلايا الأخرى وحرق ملفات التخزين الخارجية أو الداخلية، حتى ينعموا بخاصية الروائح العطرة وتخفيضات سعات الذاكرة وذرّ رماد الذكريات في (خشم) نسيانهم!