{ استلهاماً من مقالاتك المستمرة حول النهوض بالزراعة وإيمانك العميق عمق النيل وخصوبة الأرض أكتب.. أراك شاهراً (مُنجلك) في وجه اليباب تستجدي لحزم الاقتصاد لعلك تفك منغلق البورصات بسهم قوي يقتل الفقر في بلاد سليل الفراديس الذي يجري كما الدمع يبلل خدود الحزن المليئة بالبودرة والمساحيق. أخي صاحب «الملاذات»، أرجو أن تجد هذه المشاركة حظها في النشر. { في الطريق من الخرطوم إلى كوستي تنظر ذات اليمين وذات الشمال وعيونك ما تشوف إلا القصب في مساحات محدودة خاصة بالمصنع، حذاء شارع الأسفلت الطويل، المعروضات عَجُّور و(تِبِش) وجِبْنَة وفسيخ. في الطريق من الخرطوم إلى مدني وعلى مدّ البصر بساط أخضر يسر النظر، تقترب منه تكتشف أنه سجاد من النجيل والبروس والعشر تتخلله مزارع ليمون وأب سبعين. كنت أظن أن الأبقار النحيلة العابرة هذه هي محطتها ولكنها تتجاوزه نحو البعيد لعدم صلاحيته كعلف، فتصبح المشاوير رياضة مثل الفريق القومي يغدو بِطاناً ويعود خِماصاً. { بطريق الشرق، الموازي لطريق مدني، تتلفت وترسل بصرك فيرتد إليك حاسراً وهو حسير؛ فالأرض بور ومزارع الاستحواذ المسورة بألبان وشجر الزينة موضة هذه الأعوام، يغطي الفراغ فتحسب المزرعة عامرة بما لذّ وطاب فتجد إما الترفيه هو الغالب أو صوت الدجاج، تتقدم نحو (كُترانج) فتجد الأرض مُلئت رشاشات والخضرة تكسو المناطق لتكتشف أن المزروع هو العلف وبشراهة منقطعة النظير، فهي ثقافة إرضاء مزاج المستثمر. { من أم درمان وحتى الملتقى عينك ما تشوف إلا الأرض المزروعة رملة، من الملتقى وحتى دنقلا وتعود حتى كريمة ومروي تجد أن النخل يحتشد محاذياً النيل مثل عمارات شوارع الستين والمطار. تسترق النظر لعلك ترى الليمون والبرتقال والموز والجوافة والمانجو فيحدثك خبير بالمنطقة أن النخيل هو الغالب. ويزيدك علماً بأن شجر القرض انعدم وكذا الطلح والسَّلّم، وأن النخل يسيطر على الأرض لمدة تسعة شهور حارماً كل المحاصيل من الظهور لينتج مرة واحدة. { والحال هذه فوزارة الزراعة مزروعة بالوظائف، واللجان المستوطنة بالخرطوم تظل تنبثق كل عام بإعلانات العروة الصيفية والشتوية ونظافة الترع وتسمع جعجعة بلا طحين إنتاج، ويظل عام الحصاد هو الذرة أو الغلاء أو الندرة، وتسمع شكاوى عطش المحاصيل والترع المكسورة ماؤها يصل مشارف الأسفلت كمساحات تُسقى لإنتاج البعوض. { يظل تلفزيون جمهورية السودان يقدم عروضاً إعلانية مصحوبة بالنحاس والرقص والسيوف كبلد زراعي جميل، يغري الشامتين والطامعين، ولكن الواقع تؤكده النهضة الزراعية التي ما قامت إلا لأنها قاعدة، ولولا القعود لما طُلب منها النهوض، ولكن واقع الحال يقول إن وزارة الزرعة ليست في مستوى المزروع، لذلك اتجهت إلى معارض الزهور وسمحت للأراضي بزراعة العمارات والمخططات للمساهمة في النهضة العمرانية، بدلاً من أن تشق ترعة رئيسية وأخرى فرعية وتعلن لخريجي الزراعة والبيطرة عن طرح أراضٍ بأسعار زهيدة تخلق بها فرص عمل خصماً من بند العطالة وتثري بها الإنتاج، تزرع أعمدة كهرباء وتشق طرقاً مسفلتة في مشاريع نبتة وفلل النسيم والياسمين. { إنَّ الامتحان الأكبر لأهل السودان هو النيل والأرض، لا البترول والنهضة العمرانية، فهل تصبح نهضة زراعية حقيقية قبل أن يصبح ماؤنا غوراً؟ إنَّ بذل الغالي والنفيس من أجل الطاقة النووية ومن أجل المكتبة العالمية ومن أجل المدينة الإعلامية ومن أجل الزهور التجميلية؛ لن تفيد طالما هنا نهر معطل وقصر مشيد وطالما هناك قرى تفترش الأرض وتلتحف السماء وتجري السيول يبقى الزبد والتصريح والإعلام جفاء. قوموا من وزاراتكم وانصبوا خيامكم في المشاريع فقد سئمنا توطين الوظائف وتشريد المحاصيل. { مخرج: هذا المقال وردنا من «صديق الفكرة». أخوكم السر علي الهادي