ونحن نخرج من مشهد إلى مشهد أخر أكثر منه ادهاشاً وسحراً، اجتاحتني دفقة هائلة من الأشواق، لماذا لا نبنيه وطناً «الأسمر الجميل»، على أن نستقي كل مفردات وأدوات هذا الحلم الوسيم من موادنا المحلية وموروثاتنا الفكرية والثقافية. كنا منذ فترة نتحدث عن الخرطوم «كعاصمة بلا شخصية» ولا هوية، ودعوني أعود مرة أخرى إلى تلك الواقعة لعلها ترفد فكرتي هذه التي خرجت لأجلها اليوم، وصلتني دعوة، ذات يوم حزين، من بعض الإخوان وكانوا يومئذ «بقايا مغتربين»، إن جاز لنا أن نستخدم هذا اللون الصارخ، هؤلاء الإخوان وجدوا اأنفسهم أو انتبهوا فجأة إلى أنهم يقطنون حياً يسمى «امتداد حلة كوكو»، وبدا كما لو أن هذا المصطلح لا يعبر عن ثقافة المهاجر التي أتوا منها، فاختاروا بالأغلبية المطلقة اسم «الدوحة» ثم طلبوا مني أن أروج لهذا الاسم الجديد، فذهبت مباشرة لأكتب مقالي الباهظ والذي أقام الدوحة ولم يقعدها، وكان تحت عنوان «خلجنة الحياة السودانية»، على أننا نبيع رخيصاً تاريخنا وتراثنا ونشتري بثمنه مدناً راحت تعوض عن خسارتها التراثية بالأدهنة والمساحيق والأصباغ. وذكرت في ذلك المقال، أنه لم يبق في سودان النيل والسمرة والصحراء إلا «الفجيرة وأم القوين»، بعد أن نفدت كل المسميات الخليجية بالخرطوم والتي تبدأ بالشارقة والدوحة، ولا تنتهي بالرياض والطائف، وصولاً إلى المنشية ورأيت يومئذ أننا بحاجة إلى رفع «علم السودنة» من جديد للحفاظ على ما تبقى من تراثنا الأصيل، على أن تاريخنا ليس معروضاً للبيع في أسواق الاستلاب الجديدة و.. و.. { حالة هي أشبه وأقرب إلى تلك الشجون والمشاعر التي تنتاب الملهمة روضة الحاج محمد في مواسم الخريف والمطر: واحترت في سر احتدام تذكري لك بالمطر ملامح في الأفق البعيد قدومه ألا أعياني التصبر والحذر وتشتد بي حمى أوكارك كلما غيث أطل أو انهمر وتتأزم الآفاق إرعاداً وإبراقاً ويكاد هذا القلب مني أن يفر ويهزني صوت المطر { تجتاحني ذات الأشواق في «مواسم الوطن»، وهل للوطن مواسم كالمطر والزيف، نعم فكلما وقفت عند صناعة سودانية باهرة «تحتدم سمرتي» وتصبح سودانيتي أكثر نصاعة ولا أملك ساعتها، كلما مررت بهذه المدن المخلجنة إلا أن أشهر سيفي و.. و.. { كان السيد الجعفري؛ معتمد محلية أمبدة، يستضيفني وصديقي التشكيلي عبدالمنعم الزين، يستضيفنا منذ أيام في «مدينة فاضلة» نهضت بمعتمديته على مقربة من «سوق الناقة» الشهير بأم درمان، فلقد بلغت بي الدهشة مبلغاً ونحن نخرج من حوض السباحة الفسيح لندخل إلى ميدان كرة القدم المنجل بمقصورته الباهرة، ثم ملعب الشطرنج والطاولة لندخل إلى جناح ساحر للأدب والثقافة والسمر الجميل، أجنحة خاصة للمرأة والطفل، وصالة رحيبة للأفراح، كل الجمال فليست هنالك صالة للحزن والكآبة، وأنا أخرج من سحر إلى دهشة، كما لو أنني بربى جبل مرة، «ألوان شجر وأسراب طيور.. جات طالعة من جوا الصخور، عالم عجيب وجمال وسحرنا». { فاحتدمت سودانيتي واحتشدت أشواق السمرة والأمل والحياة، وتساءلت: فلئن كانت العروبة قد استعصمت عنا شمالاً، والاستوائية استعصمت جنوباً، فلماذا لا نصنع في هذه المساحة بين العروبة الخالصة والأفرقة المخلصة «مساحة سمراء»، فعلى الأقل إن فشلت النهضة في بناء «السودان الأخضر» فلنبدأ من أمبدة صناعة السودان الأسمر الجميل و.. و.. { فاقترحت على الأستاذ الجعفري أن يطلق على مدينته المرتقبة اسم «سمراء» مدينة للثقافة والرياضة والحياة.. للأمل والأشواق والسمر الجميل..