تصوروا معي لو كنا نعيش هذا الصيف أزمة كهرباء حادة، كأن يزورنا التيار لبضع ساعات في اليوم والليلة ثم يختفي في معظم الساعات، كيف كان سيكون حال صحافتنا، أتصور أن كل صفحاتها ستكون مكهربة، ولقد اعترتنا مثل هذه الأزمات ورأينا كيف كان شكل التغطيات الصحفية، العمودية منها والأفقية، كانت كلها «قابلة للاشتعال»، كان وقتها المهندس مكاوي هو أشهر مسؤول حكومي في جمهورية السودان، وفي المقابل الآن كثيرون، وأنا منهم، لا يعرفون اسم مدير الهيئة العامة للكهرباء، لأننا ببساطة لا نعيش أزمة تذبذب كهربائي، ولكن في المقابل هل قرأتم مقالاً ولو يتيماً في صحيفة حتى من ذوات الانتشار المحدود و«الحيل المهدود»، تتحدث عن توفر التيار الكهربائي هذا الصيف، وهل هذه الثقافة تعود «لشح قيمي أو فقر مهني»، أم أن القصة برمتها تعود لجدلية الخبر، على أن الخبر هو أن يقوم رجل بعض كلب وليس الخبر أن يقوم كلب بعض رجل، بمعنى آخر أن تحتشد المهنة بكل أشكالها وتغطياتها في نصف الكوب الفارغ، على افتراض أن الصحافة تخدم قضايا الجماهير، وأن للحكومة أجهزة أخرى تخدمها، ولو أن ذلك كذلك نكون قد نحرنا «الحقيقة» المجردة في وضح النهار و.. و.. على أية حال أود في هذا المقال أن أخرج على هذا السياق، ولو مرة في كل عام بين اليقظة والأحلام، أود أن أنتصر على نفسي وقلمي وأشيد بإدارة مرفق حكومي حرمني من خدمة متاحة للآخرين، بمعنى آخر أكثر تقديساً «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى». وتعود القصة إلى أن أحد الإخوان الذين لهم صلة بمصلحة الأراضي، قد أخبرني بأنه بإمكاني أن أذهب إلى مكتب شرق النيل لاستلام العقد، وأنهم قد تسلموا عقوداتهم، فما كان مني إلا أن توجهت مباشرة لمكتب الأستاذة أماني؛ مدير أراضي شرق النيل، لقضاء هذه الخدمة، غير أن السيدة المديرة قد اعتذرت بأدب بأنها قد أوقفت هذه الخدمة إلى حين، حاولت أن أخبرها بأن الآخرين يتسلمون و.. و... فكانت قاطعة وصارمة في قرارها بأنها قد أوقفت هذه الخدمة لحين الفراغ من خدمات أخرى. وبرغم (كسر الخاطر) إلا أنني لم أملك إلا أن أحترمها، وهي يومئذٍ تعرف هويتي الصحفية، وتعرف يومئذٍ موقع الملاذات في خارطة شرق النيل، على أن صاحب الملاذات، عليه من الله الرضوان، هو معتمد غير معين بقرار جمهوري، ولكنه بدرجة معتمد من جماهير هذا الشرق الوفي، وكنت ساعتها في أبهى صوري وأنضر جولاتي، لكنها أصرت على موقفها، فالجميع سواسية أمام اللوائح والقوانين، فتحسست ربطة عنقي جيداً ثم انصرفت مباشرة لأكتب مقالاً جهيراً أشيد فيه بأداء هذا المكتب في ظل إدارة الأستاذة أماني، وأتصور أن حملة إعلامية جانحة وغير موفقة تلك التي نهضت في الفترة الأخيرة في مواجهة مكتب أراضي شرق النيل، فالذي يدرك أبعاد الملفات المعقدة والمتراكمة في هذه المحلية، لا يملك إلا أن يشد على أيدي كل العاملين بهذا المكتب، على الأقل أن (قرعة تعويضات الجريف) التي تشارف نهايتها الآن، تفوق الثلاثة آلاف قطعة أرض، ولو علمتم أن في كل قطعة أرض مجموعة معوقات تتعلق بالاستحقاقات والورثات والتسويات، وعليك في هذه الحالة أن تحافظ على حقوق المواطنين ولا تفرط في حقوق الدولة، ثم هنالك كثير من ملفات القرى التي تنظمت وتحوسبت داخل الأجهزة، بل أنا لا أعرف جهة كانت تعاني ما يشبه الأزمة في تسوية أراضيها وإصلاح مستنداتها وتوثيقها وإثبات حقوق حيازاتها مثل منطقة شرق النيل، وبقدر ما كتبت عن تلك الأزمات والمعاناة في أوقاتها وأماكنها، فالآن نكتب عن المجهودات الهائلة التي تضطلع بها مصلحة الأراضي، وما الأستاذة أماني إلا نافذة وواجهة وعنوان لقصة بطلها مولانا عصام عبدالقادر وآخرون، بذلوا مجهودات جبارة بهذه المصلحة، وبرغم أن المصلحة قد بذلت الكثير إلا أنه لا يزال ينتظرها الكثير. مخرج.. الحمد لله الذي جعلني أمتلك من الوفاء والإنصاف ما يجعلني أحتفل بنجاحات السيدة أماني؛ مدير أراضي شرق النيل، وأنا أخرج من مكتبها مكسور الخاطر، رافضاً أن تكسر عنق الحقيقة وتُنحر أمام مكتبها و... و...