لكنّني حزينة وقد قررت في المساء ألا أكتب، فجاءني حديثه ذات نهار يوبّخني بطريقته الأم درمانية الماكرة (إنتي قايلة غيرك مافي؟ اوعى تلعبي في شغلك في ناس قاعدين ليك على الهبشة!) وبمقدار تلك الهبشة كانت مسافة أن يكون (أحمد عمرابي) ليس أكثر بعد اليوم! هكذا كان الخبر! هو خبر السواد علينا نحن أهل العموم الذين نصادفه بمشاوير الهاتف والقدم كلما سنحت شواغل أنفسنا وأموالنا وأهلينا بمساحة نحاول فيها مجاملة ضميرنا الصحفي قبل الإنساني، حيث كان بالنسبة لي - ولكثيرين - والداً برتبة صديق، يخبرك بحيله التربوية الطرائق المحتملة للنجاة في دنيا الصحافة ويمنحك حق (الفيتو) بأن تقرر دربك لكن لا ترغمه أن يساعدك إن لم يكن هو خياره لك! ولكم أن تقرأوا النعي على كافة الصحف لتعرفوا أن هناك نجماً من الوطن عبر إلى السماء بلا أضواء مبهرجة، لكن بضجيج عالٍ من بكاء الذين يفتقدونه منذ الآن! ولتعلموا أنه (ما زول هين) مشت إليه السحابات مظللة موكب جنازته تزخه بدموعها المعطرة تخبره (مرحباً بك). ترش الأرض كي لا تصدر غباراً يعفر أرجل الحاملين (عنقريبه) فكم كان يحب النظافة واللطافة والظرافة.. والفخامة هيبة وحديثاً وصحافة. لماذا أكتب هذه المناحة الآن لأشفي نفسي من وجع فقدي لأب جديد آخر؟ أم لأرتدي ثوباً - كان الفقيد - فأكتسب صدقة الحزن المضافة إلى رصيد روحي؟ لماذا لم أحتجب فقط؟ أصلاً لماذا أسمع نصيحة رجل لم يسمع نصيحتنا بأن يتريث قليلاً فنحن بحوجة ماسة إليه..؟ إلى هذا الحد أنا متضررة من وفاته ومؤمنة أيضاً أن الله تعالى لا يختار سريعاً هكذا إلا الأفضل ويتركنا نحن نصطرع على أرض النسيان والوجع.. وجعي لن يزن مثقال حبة من حزن أبنائه وإخواته - فالإخوان غالباً يتماسكون عكس البنات - وجيرانه وأصدقائه اليوميين، لكني أمسك القلم وأكتب حزني، فيبدو حين قراءته كبيراً وفلسفياً أكثر من النواح والمخاط وهز اليد على الرأس أو رفعها بالفاتحة التي لا تقرأ أبداً! وحزني هذا لا يعني أحداً أبداً وليس هناك من هو مرغم عليه لكنها حالة استفراغي الوحيدة كي أستطيع مجابهة الموت، الموت الذي لا حيلة - أم درمانية - تقيني منه ولا مكر صحفي طوال الحروف يخبرني كيف المدخل الصحيح لكتابته بشكل يجذب الناس فيقرأونه رغم حزنهم برغبة! ولم تكن لدي رغبة على الإطلاق أن اقترب من (أب استثمار) كي يكون لي بديلا مؤقتا بعد خسارتي للحقيقي الثابت، حينما أحتاج لنصح الآباء الحازم - وكانت له صفة حزم الحرير فلا يشدك لرأيه شديداً فيجرحك لكنه يحكم وثاق رأيه فلا تستطيع غيره حكماً - لخرافة ساذجة قرأتها في وقت ما أن الموت سيطارده كذلك باعتبار أنه يقف في مكان شخص ميت، ثم نسيت ذاك تماماً واستمتعت بأبوته وصداقته ورؤيته وفكره وحرصه على أن أقرأ وأكتب و.. ألا أبكي دائماً، فالحزن يفجر فراشات الإبداع في الروح ويجعلها تبثه أفكاراً جميلة للناس وهذا ما ينفعهم. لكن ما نفعي أنا بهذا النواح.. بهذه الجمل الناقصة والباهتة والغريبة وغير المفيدة، كيف سأفيد نفسي بهذه الحماقة والتعرية والاستجداء العلني لإنتاج حزني الضعيف؟ ما نفعي ولو امتلأت العيون الآن بدمعات المواساة الخجلة المتاوقة بين الجفون لا تجرؤ على النزول ولا تريد الدخول - تحاول أن ترى كافة المشاهد - ماذا سأستفيد ولن يتصل بي أستاذي الصديق موبخاً بحرير كلماته الحانية على موضوع أكثر سخافة من هذا، أو مشيداً بآخر، بزهو أنه ساهم في (البت دي)، ماذا سينفعني إن وقعت على وجهي أجفف دمعي بالتراب أو بمناديل ورقية رخيصة؟ ماذا سينفعني مشوار الخرطوم وليس فيه غشوة ونسة مع (عمرابي)؟؟