ومزاج الحزن يشربني كل صباح منذ أيام، قهوةً لصداعه المستمر. فعقب إفاقتي من (فلقة) الموت وصراخ دموع الفراق، تنبهت إلى حديث ذات نهار داخل قاعة (الشهيد الزبير) لسعادة الفريق م. (عمر قدور) عن فكرة صندوق تقاعدي يقتطع من مرتبات الضباط يسيراً ليكون (ختّة) للضابط المتقاعد كنوع من التكافل الوظيفي، فالضابط الشاب اليوم هو معاشي الغد.. ثم قرأت ما كتبه السيد رئيس التحرير (الهندي عز الدين) عن وجع الصحفيين وانكفائهم بأمانة الكلمة على هموم الناس ونسيان قضاء حوائجهم حتى يتهالك جسدهم على مقعد الزمن والمرض يستجدي عافية السؤال والحال والأحوال (الما تمام)؟ ففي تمام المشهد المهيب لعزاء أستاذنا الراحل (أحمد عمرابي) - والموت يضيف للشخص مهابة فلا تتمكن إلا من إضافة لقب المرحوم أو الراحل، وحينما كان بيننا رغم فوارق الخبرة والقدرة والزمن كان لقبه (عمرابي) فوق كل لقب ممكن، سبحان الحي الذي لا يموت - شاهدت أقدام الصحفيين والصحفيات وكافة الإعلاميين تمشي بحزنها إلى الصف الأمامي، تعزي نفسها بأجر المؤازرة الإنسانية والوجود في تمام المكان والزمان، مكتفين جميعنا بما دفعناه من حقائق دموعنا للراحل - وحقهم أنهم كأسرة ممتدة وعريقة ليسوا في حاجة سوى لوقفة العزاء المشرفة - وحينما حان موعد أذان الرجوع إلى كهوف انكفائنا على ذاتنا جرجرنا خيبتنا بعدم مساندتنا سوى باستهلاك طاقة صبرهم التي يوصيهم بها الله تعالى، نجبرهم على سحق روحهم باستحضار فقيدهم فينا بكافة أحواله صديقاً وموظفاً ومرافقاً ومعلماً، وباستهلاك بضع أكواب من الشاي والماء البارد نطفئ به حرائق جوفنا المرتعبة من فكرة الموت لا غير! وغير الموت الحقيقي المفارق للحياة تموت أجساد الصحفيين ألف مرة في اليوم، بدنياً، بجرجرتهم بين أروقة الوزارات والسفارات و(القوالات) المسؤولة وغير المسؤولة، ونفسياً بجرهم نحو الجنون لمحاولة الموازنة بين الأخلاق المهنية والأسرية والاقتصادية التي تجعلهم يقطعون الشعرة الفاصلة بين الرشوة والهدية وال...! ناهيك عن موتهم المهني بتكرارهم خبرة عام كل عام! فإذا استطاعوا - من مال رواتبهم المتواضعة - تثقيف مهمتهم بتعلم لغة أجنبية تقيهم حر الحرج في السفارات والمنظمات ومبعوثي الخارج، فلن يمنحهم الأعلى رتبة منهم حق الزمن اليومي للتأهيل لكي يضيفوا لأنفسهم خبرة لم يحصلوا عليها هم! هم غرباء المدينة أصدقاء الوزراء والفنانين والفنانات (كريم شانتيه) الجلسات والسفريات والمقابلات! كاشفو ما تيسّر من الأسرار، محدثو المدينة عن الأحوال والأخبار والتحقيقات (الما بتمشي قدام)، هم المجاملون الذين يساعدون الجار والصديق والقريب، هم همزة الوصل بين أهل الحاجة وأهل الخير. أما في ما يخصهم فبالكاد يستطيعون الاتفاق على الذهاب جماعةً لزميل في فرح أو حزن أو مرض، دعك من الاتفاق على اتحاد أو جمعية! تجمعهم مهنة نكران الجميل ليكونوا صناع الحلاوة التي يجربها الناس باللمس أو بالنظر أو السمع! وتفرقهم مطرقة السحق للمهنية مقابل ضرورة الكتّاب المتغطرسين - آفة العهد الجديد - الذين استطاعوا أن يصنعوا مجداً في الصحافة بأنهم من يبيعون الصحيفة، لا الأشكال الصحفية الضرورية، كالخبر الذي يصنع المقال للكاتب مهما بلغت بلاغته في السجع والصرف..! وصرف صيوان العزاء لأي صحفي، ومن كثرة العمم والجلاليب والمهمين، وفي بعض الأحيان السيد رئيس الجمهورية بذات نفسه! تحسب أنه (صحفي مروّق)، فتسمع بعد ذاك سراً مطالبات الديون من إيجار وقسط العربة ومتأخرات أقساط حياة أخرى! وتحتار ما هذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ وأين؟ الاتحاد والخمسة آلاف صحفي والمجلس والجرايد، عرفاً هناك (الكشف) السريع لزملاء المكان الواحد وربما في بعض الأحيان للأقربين من الصحف الأخرى. وهناك الاستجداء الكتابي الذي نمارسه علنا لنشحد للكبار والمبدعين حقهم في العلاج والاهتمام ومراعاة سنوات عملهم، فلا تبقى لهم، ولا لنا، مزعة لحم من كرامة وشرف في أصل الحقوق..! الحق علينا، فإذن يجب منذ الآن استلاف فكرة صندوق العسكر التقاعدي بوضع (ختة) محددة قيمتها من رواتبنا الشهرية بمعدل بسيط للمدى البعيد، لا يفرق مع حاجاتنا اليومية، لكنه سيكون سنداً حين حاجتنا السنية أو الصحية، بلا تسول وشفقة محسنين، يكون هو الفكرة التي تعقب سكرة الحزن هو ثورة شباب الصحافة باحتمال أمراضنا الحالية لتغيير ما تعودنا عليه من لسان حال الكبار: (لو مت ما تدفنوني لو ما سددت ديوني !) بتصحيحها لتكون: (لو مت سريع تدفنوني ما الشباب عزوني).. وآه يا عيوني!