هل لاحظتم معي ارتفاع معدلات نسياننا للتفاصيل في السنوات الأخيرة؟ لقد كنتُ أحسب الأمر شخصياً وكاد ذلك يُدخلني في أزمة نفسية حادة لولا أن كل من شكوْت له من ذاكرتي الخربة فاجأني بمعاناته من ذات الوباء الغريب. وفيهم شباب في أعمار مخضرة يبدأون حياتهم في خطواتها الأولى ويعانون من نسيان الدروس وأماكن الأشياء وأسماء الناس والأحداث، وهذه كلها أعراض كانت حتى وقت قريب مرتبطة بالشيوخ والمُسنين وتعد واحدة من علامات تقدُّم السن لا تستدعي الانزعاج أو القلق أو الاستغراب. { الآن أصبحت الحالة أشبه ما تكون بالظاهرة في أوساط الشباب وهم الفئة العمرية المحصورة ما بين ال 20-40 تقريباً إذا كان لنا أن نعد أنفسنا منهم. وهم في الأغلب طلاب جامعات تنوء أذهانهم بحمل ذلك الكم الهائل من المحاضرات فتلقي به سهواً في مكبة النسيان، لهذا نجد نتائج الامتحانات تباغتنا بمفاجآت غريبة منها أن يكون أحدهم طالباً مبرزاً وذكياً ولكنه (ربَّت) أو(شايل مواد) ليبرر لنا ذلك (من بين دموعه)، بحجة أن المعلومات قد تبخرت تماماً من ذهنه أمام ورقة الامتحان. وهي حُجة قد يعتبرها البعض باطلة أو يستنكرونها متهمين إيّاه بمحاولة الاستخفاف بعقولهم، لكنها للعلم قد باتت واقعاً ملموساً، نعاني منه نحن بصورة أخرى كون أننا قد تجاوزنا مرحلة الامتحانات هذه ولكننا أصبحنا ننسى أين وضع أحدنا هاتفه الجوال مثلاً أو سلسلة مفاتيحه، وأحياناً نكون قد خبّأنا شيئاً عزيزاً كالنقود التي نريد أن نبعدها عن أيدي المتواكلين حتى نكتشف من فرط حرصنا أننا قد نسينا مخبأها تماماً ولكم أن تتخيلوا بقية السيناريو، إذ أننا قد نقلب البيت رأساً على عقب بحثاً عنها، ولحُسن الحظ تصادفنا العديد من الأشياء التي نسينا مكانها مؤخراً فيكون هذا من الوجه المشرق الوحيد لهذا الزهايمر. { ومن أشد أنواع الزهايمر المبكر هذا إزعاجاً وإحراجاً، هو أن تنسى أسماء وجوه عبرت حياتك يوماً، بعضها قد يكون له أثر واضح في ذاكرتك، وسبق له أن أمضى معك ردحاً من الزمان أو شهد معك أحداثاً فاعلة لا يجوز معها أن تنساه، وأنت تكون مستحضراً الشخوص والمواقف تماماً ولكنك نسيت الأسماء، وياله من مأزق حرج لا تجدي معه كل محاولاتك اليائسة لتحاشي ذكر الاسم خلال ذلك اللقاء!، والأدهى من ذلك أن تكون قد نسيت الشخصية برمتها وسقطت من ذاكرتك حتى الفترة التي عرفتها فيها والمواقف التي عايشتموها معاً. { ويرى العلماء أن مسألة النسيان هذه مسألة عادية أشبه ما تكون (بفرمتة) المعلومات الإلكترونية القديمة غير المجدية لتحل معلومات جديدة محلها، ولكن الأمر الآن قد تجاوز هذا الحد من التفسير العلمي المنطقي حتى بلغ حداً مخيفاً ومصدر خوفه كونه أصبح جماعياً ولا أدري هل للأمر علاقة بواقعنا الحياتي اللاهث والمهلك، أم أنه مرض جديد من أمراض العصر؟ أم أن السبب وراء إصابة معظمنا بهذا الزهايمر المبكر يعود لما تعج به بيئتنا من مخالفات وما يمتلئ به هواءها من غازات وما يندس في مختلف أنواع غذاءنا من مُحسِّنات وكيماويات؟ أو ربما هو هروب من شكل الحياة المفروض علينا بكل قساوته وافتقاره للحميمية والاستقرار النفسي والشعور بالإطمئنان!. إنني أعتقد أن الذاكرة تعمل بوقود التوازن النفسي والإحساس بالأمان، ويفقدها القلق والتوتر والتفكير المضني في المستقبل المجهول الكثير من فاعليتها وحيويتها. وهذا قد يُفسِّر لماذا أصبح الزهايمر عادة لمعظم الشباب حتى أن أحدهم يكاد ينسى اسمه من فرط انشغاله بما تُخبئه له الأيام!. { تلويح: وفي النسيان سلوى.. (لكن كمان ما قدر ده!).