نظرة خاطفة لطفلة فى الثامنة من عمرها وثقت لملامح رجل جذب انتباهتها وهو يرحل بكامل جثته منعطفاً ليغيب فى شارع آخر، أرسلت ساقيها متعجلة لتردفه بنظرة ثانية لعلها تفك سر هذه الحالة التى دخلت فيها ولكن الرجل كان أسرع من خطواتها، وكأن الأرض ابتعلته تماماً. عادت مهزومة وكأنها خسرت كنزاً ثميناً واستقرت بها رحلتها القصيرة التى قطعتها فى طريق العودة أمام باب دار أسرتها وهى تمني النفس بعودته لتكمل نظراتها فيه وتقرر بشأن علاقتها به وقد ظلت نظراتها معلقة بالمنعطف الذى حال بينها وبينه مثل كاميرا تفتح كادراً وتنتظر دخول بطل المشهد ليتم تصويره. جلست لساعتين حتى أدركها المغيب وهى كاملة الشرود فتنتبه على وقع صراخ والدتها فتنهض مودعة المنعطف بنظرة مطولة وكأنها تغلقه حتى لا يعبر الرجل فى غيابها، ومن ثم تحمل خطواتها المثقلة فى اتجاه والدتها التى تنزع يد طفلتها وتسرع بها إلى داخل البيت دون أن تنتبه الأم الغافلة لحالة غريبة جداً دخلت فيها ابنتها، وهى بذلك مثل عشرات ومئات الأمهات اللآئي يغفلن عن الكثير من فطنتهن أمام أطفالهن، فقط كلما يشغل بالهن أن يجدن أطفالهن وحسب. ظلت لساعة متأخرة من الليل ساهية دون أن تلحظها والدتها، حتى غشيها النوم، وفى نومها تدرك ما عجز عنه صحوها، تصطاد الرجل فى رؤية منامية فى طريق عودته عند المنعطف وتجاذبت معه الحديث وهى تمطره بعشرات الأسئلة التى أعجزت والدتها وظلت تهرب منها دون أن تدرك تأثير ذلك على طفلتها. من داخل تلك الرؤية المنامية أجابها الرجل أنه ليس بأبيها وأن أباها مات بعد ميلادها بثلاثة أشهر وأنه ليس مسافراً وسيعود كما تقول لها أمها، وتلح الطفلة على الرجل وهى تطرح أسئلة عصية وغريبة وتصر على أن تحصل على إجابات والرجل يرفض أن يكذب عليها وفى الختام طلبت من الرجل أن ترى والدها وأن يحادثها مثلما يحادثها هي فيقول لها الرجل متهرباً: ألم تري صورة أبيك معلقة على جدران منزلكم؟ تجيبه بأنها رأتها ولكنها صورة رجل مسافر وليس رجل ميت كما تقول أنت عن أبي. كانت أصعب مواجهة يعيشها الرجل من داخل تلك الرؤية المنامية التى لم يخض غمار مثيلتها فى حياته وقد كانت الطفلة تستغرق فى حلمها هذا فى ذات الوقت الذى كان الرجل يستقبل ذات الرؤية المنامية بكل تفاصيلها وتوقيتها وبدايتها ونهايتها وكأنها مواجهة حقيقية، ليست مجرد رؤية. على غير عادتها نهضت الطفلة باكراً وزحفت بكلياتها نحو صورة والدها وقد أدركت أنه ميت منذ ثمانية أعوام وأن والدتها ظلت تكذب عليها طيلة هذه المدة، أو طوال عمرها، تعلقت عيناها بصورة أبيها وعيناها تدمعان، والدتها تلمحها على تلك الحالة قبل أن تدرك أن الساعة تجاوزت المعتاد الذى كانت تنهض فيه من سريرها، جلست على سريرها ترقب ابنتها بدهشة وذهول وتتقافز عشرات الأسئلة إلى عقلها وهى تخشى أن تكون طفلتها قد أدركت الحقيقة. الرجل حملته الرؤية المنامية إلى موجة من التفكير فى شأن هذه الطفلة التى لا يعرفها وفى ذات الوقت أجابها على كل تساؤلاتها وهو لا يدرك إن كانت إجاباته صحيحة أم خاطئة وشغله أكثر غرابة أسئلتها وذكاؤها وإصرارها وقد همّ الرجل بالرؤية وسيطرت على تفكيره لعدة أيام دون أن يتناساها للحظة حتى وجد نفسه فى ساعة متأخرة من نهار يوم طويل أمام الطفلة وجهاً لوجه عند ذات المنعطف وهى تبحلق فيه والرجل يتصاعد ذهوله ويبادلها بنظرات لا تكترث لها بأنها تناظر طفلة يتسع فارق السن بينها وبينه لأكثر من أربعين سنة.. يهبط الرجل ليدنو منها حتى يستقر جالساً والطفلة لا تفعل أكثر من إطراق نظراتها بذات بطء جلوس الرجل دون أن يفلت منها وقبل أن يحادثها تطل والدتها فتصفعه بسؤال يزيد من إرباكه: إنت القلت ليها أبوك ميت؟ ينهض الرجل ببطء ويتوجه بكل نظراته نحو مصدر الصوت وكأن الأرض تدور من تحت قدميه والصوت يحدثه عن رؤية منامية رأها وأمامه ذات الطفلة والطفلة تتعرف عليه وتحاصره بنظراتها مثلما حاصرته بأسئلتها من داخل الرؤية المنامية. الأم تخطف يد طفلتها وتغادر مسرعة والرجل فى ذهوله صعقاً..