مسيحية دارفور: مثلما غطت المسيحية كل أنحاء السودان في الماضي، هكذا غطت كل أنحاء دارفور، وكانت الأبيض هي المحطة الأولى التي منها ينطلقون، ويذهبون إلى أماكن نائية وهناك يعملون ويتوادون ويتحابون، ويديرون منتديات ثقافية، وينشرون ثقافة المحبة والسلام في أرض طيبة هي قلوب شركائهم في الوطن، ومن المعروف أن المسيحية جاءت من مصر إلى دارفور، حملها رهبان كنيسة الإسكندرية، مروراً بدرب الأربعين، ويقول الباحث محمدين محمد إسحاق في بحثة القيم المسيحية والإسلام في دارفور، أن هؤلاء الرهبان القادمين من الضيقة العظيمة جاءوا إلى دارفور وافدين متعبدين قانتين راكعين سائحين قبل أن يأتوا عبر أسوان إلى حلفاودنقلا، لقد وفدوا في عام 250م، بينما جاءت المسيحية رسمياً إلى دنقلا وفرس وسوبا سنة 542م. والأقباط بعد هذا ملأوا دارفور في مسيحية طاهرة نقية، أعجب بها السودان، ودخل السودانيون في الإيمان المسيحي تحت مظلة الكنيسة القبطية، والتي يذكرها المؤرخون بأنها الكنيسة اليعقوبية، وامتلأت حواضر دارفور الفاشرونيالا، والجنينة، والضعين والرهد والنهود وأبيي. وبالمجلد تجار أقباط تركوا بصمات محبتهم للوطن في كل موقع، وأقاموا في هذه البلاد أكبر معاصر زيوت حتى كبرت هذه البلاد وصارت حواضر وعواصم للولايات في دارفور. وتذكر نيالا حاضرة جنوب دارفور أسماءً لامعة ونجوماً مضيئة في سماء الوطن، حيث أقيم أول مصنع لإنتاج الزيوت في عام 1950م، وكان شراكة بين يعقوب روماني، وأديب علم مكسيموس، وعيدو أمين، وفي إفادة من السيد جمال أديب عن تبادل تجاري بين نيالا وأفريقيا الوسطى وأن معاصر الزيوت قامت على يد كثيرين ماهر يوساب، هارفي يوساب، صليب صبحي، وأن بعض الأقباط تاجروا ونجحوا في تصدير المحاصيل مثل ثروت جرجس، وزغلول كيرلس وأسعد يعقوب روماني، أما عياد حكيم جرجس فقد صار وكيلاً لمصانع أيوب للحديد والبوهيات، وعند أقباط نيالا كنيسة قبطية، خاصة بهم يخدمها الأب غبريال الأنطوني، ويشرف على إدارتها القبطي البير راغب صاحب المشاريع والذي أقام في نيالا مشاريع لم يقمها أحد قبله، فلقد شيَّد هناك معصرة للزيوت، ومسلخاً كبيراً لتصدير اللحوم من موقع الثروة الحيوانية، وأضاف البير راغب إلى مشاريعه الاقتصادية مشاريع روحية مثل بناء المدارس، وحفر الآبار وتوزيع الماء مجاناً على المواطنين مما جعل البعض يرفضون له هذا الصنيع المبارك لأنه أضاع أرزاقهم، وقد وصل البير راغب إلى موقع مستشار الوالي للشؤون الاقتصادية، وقد استقبلت نيالا أقباط من أم درمان، ومن الأبيض، كما استقبلت حبيب يوسف من شندي مركز صناعات النسيج، وفي نيالا ازدهرت أعمال طلعت بخيب إيلياس وأيلياس نجيب، وفي النهود عاش باخوم توما تاجراً ناجحاً، احتمل ظروف البلاد من عدم وجود كهرباء وماء، وأبلى هناك بلاءً حسناً، وشعر بالاستقرار حتى أنجب تسع بنات وولدين، كانت أسرته مكونة من ثلاثة عشر فرداً، ومشهور عنه اهتمامه الشديد بالنظافة في أسرته المباركة، وكان يقف في كل مساء على بناته التسع لكي يتطهرن بالماء ويغسلن أجسادهن وأقدامهن، ويشجعهن على هذه النظافة التي هي مدخل إلى الصحة الحقيقية، وفي النهود الآن كنيسة قبطية في بيت تبرع به أحد أقباط النهود، أما فرج شنودة وحكيم شنودة وميلاد صموئيل وحكيم جرجس فقد كانوا من أنشط تجار النهود. عيدو جورج: وكان عيدو جورج رجلاً مؤمناً ناجحاً موفقاً، تشابكت علاقاته في أي موقع ذهب إليه، وجاء إلى الأبيض للعمل مع أبيه جورج أسطفانوس، وفكر عيدو أن ينطلق ويترك أسرته ويبدأ في موقع آخر، فسافر إلى النهود ثم أبيي ثم المجلد، وفي إفادة من ابنه عصام عيدو الاقتصادي الناجح، والذي انتخب لرئاسة مجلس إدارة النادي القبطي لأكثر من مرة، أن والده المحترم كان لديه من الذرية ثمانية أولاد وثلاثة بنات كلهم من مواليد الأبيض والنهود والمجلد، وأنه لم يترك دارفور إلا بسبب إكمال تعليم أولاده، وأنه كان في دارفور بابه مفتوح لكل الناس، في كرم حاتم الطائى، لاستقبال القادمين من أي موقع في السودان، ولم تكن هناك لوكاندة واحدة سوى بيته المجاني الكريم، وكان له نشاط أدبي وثقافي، وعلاقات واسعة، وكان خطيباً فصيحاً لبقاً علاقته مع أول وزير دفاع خلف الله خالد علاقة أشقاء، وأيضاً الشيخ علي عبدالرحمن، وأبو رنات، وكان مغرماً بتبني تعليم شباب المنطقة مسخراً لهم كل الإمكانيات للتعليم في الخارج لحساب عيدو جورج، وفي المجلد خاطب الفريق عبود طالباً افتتاح خط سكة حديد بين بابنوسة وواو، وهكذا خاطب الصادق المهدي زعيم حرب الأمة، بعد المفاصلة بينه وعمه الهادي، وقد كان عيدو جورج موضع إعجاب للأدباء والكتاب، فلقد كتب عنه الأديب المخضرم فضيلي جمَّاع، تحت عنوان “بين صليب محمد وهلال المسيح” عيدو جورج، ولا شك أن هذا العنوان له مغزى ومعنى، وأتمنى أن أجد هذا المقال الوثيقة، كما كتب عنه الصحفي اللامع جمال عنقرة، والذي كتب أيضاً مقالاً عند رحيل الدكتور عادل عيدو، وقدم فيه كل محبة إلى عيدو جورج وشريكة حياته التي كانت حنوناً على كل مواطني البلاد التي عاش فيها وهي السيدة وداد شنودة بشارة، أو ماما وداد كما قال عنها جمال عنقرة. أما المثقف خريج جامعة الخرطوم نبيل عيدو، فقد أستجمع ذاكرته ليكتب إلى عن أبيه عيدو وأعتقد أنه كتب إلي مقالاً جديداً، فاض دمعه عليه مدراراً، وعيدو جورج من مواليد 1924م وقد جاء إلى الأبيض مع أبيه لمساعدة عمه رزيقي جورج والذي كان رقماً كبيراً وتاجراً ناجحاً في الأبيض، ولكن عيدو ترك أباه وعمه ونزح إلى مناطق أخرى، لقد ذهب إلى النهود، بعدها رافق الناظر دينق مجوك إلى أبيي، بدعوة من الناظر بابونمر ناظر عموم المسيرية، ولو كان عيدو على قيد الحياة الآن لكان أول من يجد حلاً لمشكلة أبيي، ولكنه غادر دنيانا إلي سماء المجد في عام 1980م، وله من العمر ستة وخمسون عاماً، وبعد ثلاث سنوات في أبيي من 1948-1953م، ذهب إلى مدينة المجلد، وفي كل موقع كان متجره ملتقى الأدباء والعلماء، وكبار رجال الدولة، وفي المجلد أنشأ نادي المجلد الثقافي، وكان رئيساً له لدورتين، ثم صار رئيساً فخرياً للنادي، وقد كان عيدو يقرض الشعر، بمعنى أنه يقول على الهواء مباشرة دون تحضير انفعالاً مع المناسبة، وكانت له إسهامات أدبية وشعرية، وكان يلقب بابن الريف. ويعدد نبيل أصدقاء والده فيذكر إليّ ما ذكرنا العمدة مديدة، النعيم نمر، مصطفى النعيم، نمر أحمد حامد القاضي، أحمد أبو شعير، عبدالسلام المحبوب، يوسف الدقير أحمد عمر سدرين، لقد عاش عيدو في المجلد وعاشت المجلد فيه كما يقول نبيل، ولقد ترك عيدو المجلد إلى بابنوسة وهناك عاش حكيماً، مستشاراً للناس، سخياً في كل عمل خير، مشاركاً في كل المناسبات الوطنية والاجتماعية، والدينية مسيحية أو إسلامية، وكان في بابنوسة من عام 1966م حتى 1971م، لقد كان عيدو علماً في كل موقع، وكان بشارة خير، ورسول محبة، حوله اجتمع كل الناس، وأجمعوا على أن هذا القبطي له مثل غيره من الأقباط دور قومي واجتماعي ووطني لا يستغني عنه السودان.