الطبيعي أن ترضع الأم طفلها غريزياً بلا حاجة إلى مؤتمرات وورش عمل وقوانين وزارة صحة ومنظمات، تخبرها بضرورة الرضاعة الطبيعية وضرر الصناعية. لكن ما يلزمه الوضع الاقتصادي في كثير من البلدان الفقيرة، والسودان واحدٌ منها، هو أن تتحول معظم الأمهات إلى عاملات بترتيب هرمي، يزيد من أعبائهن في كل درجة. وذلك ينعكس خصماً على صحتهن في فترة الحمل، وعلى صحة الأطفال بعد الولادة.. فانقلبت بذلك الطبيعة ضد نفسها، الشيء الذي جعل منظمة اليونيسيف تقوم بحملة - إذا صحّ التعبير - مع وزارات الصحة في بعض البلدان، السودان من ضمنها، لتعزيز الرضاعة الطبيعية كواقٍ طبيعي للأطفال من الإصابة بالأمراض، أليس أعجوبة أن الأم المصابة بالأيدز تستطيع إرضاع طفلها السليم دون نقل المرض إليه؟!. عليه فإن الاتهام الذي تبرع فيه منظمات (الجندر) وحقوق المرأة، بأن مثل هذه الحملات تكرس لإعادة المرأة إلى المثلث القديم (بيت أبيها، بيت زوجها، أولادها)، وأنه يقلل من تحقيقها لطموحها العملي والمهني؛ إذ تستبقيها ساعات الرضاعة منهمكة في شيء غير ذاتها. ويجب أن... حسناً، كل ذلك يمكن أن يعد هراءً نظرياً إذا استطاع فيروس ما، إرضاع طفل تلك السيدة بدلاً منها، فستجبرها أشياء كثيرة إلى ترك طموحها جانباً وطرح مالها لاستعادته معافى، بجانب أن هناك أفكاراً لا تصلح لكافة المجتمعات، باعتبار اختلاف الثقافات، ففي الوقت الذي تطالب فيه جمعيات سودانية بالمساواة بين الرجل والمرأة في حقوق العمل والسفر والزواج إلى آخره، ويهجرن لذلك الرضاعة الطبيعية فيموت الأطفال بسبب نقص المناعة، والإهمال، وأحياناً الإفراط في الوجبات الصناعية! تختار سيدات أوربا ونجمات هوليوود الرضاعة الطبيعية لأطفالهن باعتبارها البديل المثالي من العناية الطبية لهم، ومن عمليات التجميل لهن! وهنا في السودان تحفز الأمهات والحبوبات الأصيلات بناتهن على ممارسة الرضاعة الطبيعية، لأنها تولد المحنة وتقوي العلاقة بين الأم وطفلها، وتمنحه القوة على تخطي أوقات التسنين والمشي والكلام إلخ... وتسهم في تنظيم الأسرة، بشكل طبيعي من غير تدخلات طبية أو عشبية يمكن أن تكون ذات نتائج مؤذية. هذا بحسب خبرتهن فقط من غير الارتكاز على الدراسات العلمية والنصوص الدينية التي لا تدع مجالاً للتفكير المتحرر القائل إن الرضاعة تخرب الشكل والطبع! طبيعة الأمومة تفرض شروطاً لا يمكن لأحد مهما بلغت قدرته على المغالطة أن يفندها، كالانجذاب الجيني بين الأم وطفلها - المستخدم في الأفلام السينمائية، وبالذات الهندية! - والغريزة الحمائية للأم تجاه أطفالها حين الخطر حتى وهم داخل رحمها، إلخ.. هذا قبل أن تتكون علاقة الرضاعة الفطرية التي تجعل الطفل حالما يخرج إلى الحياة أن يتجه إلى صدر أمه! تلك الشروط تفرض واجبات على الأم تجاه طفلها ثم على المجتمع تجاه الأم، وتلك الواجبات تستحق حقوقاً متبادلة، لذا فإن حديث وزارة الصحة حول سن تشريعات وقوانين للحد من الرضاعة الصناعية، يستلزم واجبات عليها وحقوقاً تؤديها تجاه الأم العاملة التي يمنحها قانون العمل ساعة رضاعة تضيع بين المواصلات والاستقطاعات والمجاملات وبالطبع المطبخ وأخيراً العقوبات الإدارية! إدارة الأمومة في بلد يعاني من الفقر والمرض والجهل، ليست مجرد نزهة هادئة في قاعة جميلة إلى فندق خمس نجوم، بقدر ما أنها قيادة سريعة في طريق وعر بلا رؤيا واضحة، لسائق متهور يعلي صوت المسجل إذ تعجبه الأغنية: (ما تبدولوني بلاه، لو بلبن بقرة يا اللبن! وأبوا لي بيه).