صبيحة الثامن عشر من يونيو 2009 كان الملف السوداني لحقوق الإنسان المودع لدى المجلس المختص التابع للمنظمة الأممية قد أخذ منحى آخر، عندما تواثق رجالاته في جلستهم رقم (11) على تعيين خبير مستقل معني بحالة حقوق الإنسان في السودان الذي كان يتأهب وقتها لخوض غمار الانتخابات العامة، وتواثق رجالات المجلس مرة أخرى وهم يعلنون بالإجماع بعد انقضاء أقل من أربعة شهور وتحديدا في أكتوبر تعيين القاضي محمد عثمان شاندي للمنصب المستحدث، ولم يكن عصيا وقتها إدارك الرفض الحكومي لقرار المجلس، الذي قبلته – الحكومة - على مضض، وهي التي ما فتئت تذكر العالمين بأنها الأولى بصون حقوق شعبها من الفرنجة، ومن يومها اجتهدت الخرطوم كما لم تجتهد من قبل (لترفيع) الحالة الإنسانية بالبلاد. عموم أحزاب المعارضة صدمت من اجتماع مجلس حقوق الإنسان بجنيف في أكتوبر الماضي عندما حررت دوله الأعضاء البالغ عددها سبعاً وأربعين دولة، وبالإجماع، شهادة حسن سير وسلوك لصالح حكومة السودان ناقلة بذلك (تفويضها) لشاندي من البند الرابع إلى البند العاشر، وما بين البندين كما بين الفردوس والجحيم. (1) والموقف الحكومي إزاء تعيين شاندي ربما يفسر التأخير الذي لازم زيارته الأولى للبلاد لمباشرة تفويضه حين أنفق أربعة أشهر ما بين بلاده ومباني المجلس بجنيف قبل أن يصل الخرطوم في الثالث والعشرين من يناير 2010 ليغادرها بعد سبع عشرة ليلة كانت تداعياتها كما هو متوقع حين رفضت الحكومة تقريره الذي رفعه للمجلس عن مجمل زيارته، ليخبو نجم الرجل ردحا من الزمن قبل أن يدشن زيارته الثانية في مارس الماضي التي لم تكن سوى رد فعل من المجلس الأممي على فعل حكومي نفذ قبيل أسبوع من إعلان الزيارة حين هبط وزير العدل محمد بشارة دوسة - محكما على مرافعته الأخيرة - على أعضاء المجلس الدولي بجنيف مطالبا بإنهاء تفويض شاندي الذي كان قد جدد في سبتمبر 2010 لمدة عام آخر، لجهة أن البلاد لم تعد في حاجة إلى خبير مستقل وهو الطلب الذي قوبل بالرفض القاطع من قبل المعارضة وقتها، التي قالت إن انتهاكات حقوق الإنسان لا زالت على أشدها وطالبت المجلس برفض طلب دوسة. ومع ذلك كانت مخرجات الزيارة محل ترحيب - نسبيا - من الجانب الحكومي، خصوصا وأن شاندي كان قد وجه انتقادات لاذعة للانتهاكات التي قال إن سلطات الجنوب ترتكبها في حق شعبها جاوزت تلك التي وجهها لحكومة السودان. (2) وخلافا للمسافة الفاصلة بين الزيارتين؛ الأولى والثانية، قرر الخبير المستقل تدشين زيارته الثالثة في يونيو الماضي بلقاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان التابع لوزارة العدل التي عينت وقتها وكيل نيابة مختصا بمعاينة أوضاع معتقلين لدى السلطات، فما كان من شاندي إلا الترحيب بالخطوة وتضمينها في الجانب الإيجابي من تقريره الذي سيتلوه على أعضاء المجلس الدولي لاحقا، ويومذاك تصدق شاندي على الحكومة بنصيحة تحثها على الإسراع في خطوات تشكيلها للمفوضية الوطنية لحقوق الإنسان كإحدى توصيات مجلس جنيف لتعزز به حسناتها وهي التي اعتمدت لتوها نظام التقارير الدورية عن حقوق الإنسان، ولكي ما يتسنى لها تعضيد تعاونها مع المجتمع الدولي في ما يتصل بالملف الإنساني. والحكومة بالضرورة كانت عازمة على تشكيل المفوضية التي شكلت بالفعل لرغبتها في عدم تجديد تفويض شاندي في جلسة المجلس في أكتوبر الماضي، وهو ما نجحت فيه فعليا بنقل تفويضه من البند الرابع الذي يمنحه حق التقصي الميداني لأوضاع حقوق الإنسان إلى البند العاشر الذي يختزل دوره في تقديم العون الفني للحكومة بعيدا عن أي طابع رقابي وهو ما أتى به في زيارته الرابعة التي دشنها الأحد الماضي، وفيها يؤكد شاندي حدوث تطور في وضع حقوق الإنسان بالسودان بتشكيل مفوضية حقوق الإنسان مؤخراً، موضحاً أنه سيجلس مع أعضاء المفوضية لتحديد الاحتياجات. وقال وزير العدل مولانا محمد بشارة دوسة إن زيارة شاندي تأتي في إطار تقديم العون الفني وتحديد متطلبات حقوق الإنسان في تعزيز وضع حقوق الإنسان في السودان، وأكد أن وزارته وضعت برنامجاً مفتوحاً للخبير المستقل حتى يقوم بمهامه. فيما تعهد شاندي خلال اجتماعه مع اللجنة البرلمانية لحقوق الإنسان بأن يكون العام 2012 عام تدريب التشريعيين. (3) ثمة قاسم مشترك بين زيارات شاندي الأربع يتمثل في عزوف الرجل عن لقاء قادة المعارضة، وهم بالضرورة الأكثر شكوى من حال ومآل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة - 217 ألف (د-3) - المؤرخ بالعاشر من ديسمبر 1948 الذي جاء شاندي للبلاد كآخر سدنته، مدافعا عن ثلاثين مادة شكلته، تقول أولاها (يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء)، وتقول أخيرتها (ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على تخويل أية دولة أو جماعة، أو أي فرد، أي حق في القيام بأي نشاط أو بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه). والجفوة ما بين الرجل والمعارضة يقارنها المسؤول السياسي للمؤتمر الشعبي كمال عمر مع المقررة الخاصة السابقة لحقوق الإنسان سيما سمر التي قال إنها كانت تستوثق من المعارضة وتجتهد لسماع كل الآراء فضلا عن تفويضها الشامل الذي كانت تتمتع به مقابل تفويض شاندي الأخير الذي جعل خطواته محدودة ناهيك عن عدم اتصاله بالمعارضة وحصر لقاءاته على الجانب الحكومي بينما هي (متهمة). ويبرر عمر في حديثه ل (الأهرام اليوم) عدم مبادرة المعارضة للاجتماع بشاندي بأن منهجها يرتكز على عدم استجداء المجتمع الدولي وأن المبادرة يجب أن تأتي من شاندي وليس منهم لتضمين رؤاهم في تقريره للمجلس الدولي إلا أنه عاد وقال إن إيصال رؤاهم لا يقتصر فقط على شاندي أو مجلس جنيف باعتبار أن هناك أجساما عالمية أخرى أكثر مصداقية ولها من النفوذ ما يكفي مثل منظمة (هيومن رايتس ووتش) خصوصا بعد اجتماع المجلس الدولي الأخير في جنيف الذي وصفه بأنه مخيب للآمال. وربما كان النفوذ الذي أشار إليه عمر لغّم ويلغّم القرار الذي قضى بنقل التفويض إلى البند العاشر لمدة عام قابل للتجديد – والتجديد هنا محفوف بالمخاطر - حيث تنتظر وتسعى الحكومة وفقا للتدرج الطبيعي إلى إنهاء مهمة شاندي نهائيا عند نهاية العام وهي تتحسس شكوى المعارضة التي يمكن أن تحاصرها في خانة (الردة) مستغلة نفوذ الأجسام الموازية لتبدأ مجددا من يونيو 2009 وهي خطوة ربما تتماشى مع رؤية شاندي نفسها طبقا لبعض المراقبين حيث أشيع أنه لم يكن راضيا عن قرار نقل التفويض وهو ما يفسر ما رشح عن استقالته الشهر الماضي قبل أن يسحبها أو تسحب بما يشبه الرفض ومن فوق هذا وذاك زيارته إلى دارفور بالأمس وهي زيارة شبه ميدانية تحمل في ثناياها تجاوز تفويضه غير الرقابي وهو ما قالته الحكومة رغما عن سماحها له بالزيارة لتأكيد تعاونها لإنجاح مهمة كليهما ولكن بالكيفية التي تراها وهي الكيفية التي تريد من خلالها المعارضة إدارة حروب (الردة) في صمت مطبق.