واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    عيساوي: البيضة والحجر    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    الصليب الأحمر الدولي يعلن مقتل اثنين من سائقيه وإصابة ثلاثة من موظفيه في السودان    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالفيديو.. في مشهد خطف القلوب.. سيارة المواصلات الشهيرة في أم درمان (مريم الشجاعة) تباشر عملها وسط زفة كبيرة واحتفالات من المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجاني سعيد و قصائده البرمائية التي ترفض اليقظة
نشر في الأهرام اليوم يوم 15 - 02 - 2010


لم أكن أملك من الدمع
مقدار دمعتين
و لم يكن لي منه
ما يكفيني لحزن لحظة قادمة
و لكني لأسباب لا أعلمها
ذهبت إلى مدينة البكاء
عند باب المدينة
التف بي السكان
من كل ناحية
من هنا
ومن هنا
ومن هناك
و رحبوا بي بالبكاء
و الغضب
يا لها من مدينة حزينة
أهلها دموعهم كثيرة
لأنها مدينة البكاء
و سُميت مدينة البكاء
لأن أهلها دموعهم كثيرة
فهم يبكون دائما
بلا انقطاع
يبكون في الليل و النهار
و على مدى الفصول الأربعة
يبكون شيئا غامضا
و لاتخلو أحاديثهم أبدا
من ذكر الفجيعة
و عندما رأيتهم
رأيتهم يتحلقون
حلقةً فحلقة
يتحلقون حول نخلة
أو بيضة
أو عامود كهرباء
ثم يجأرون فيما تحلقوا
حوله بالبكاء
لم أكن أملك من الدمع
مقدار دمعتين
و عندما طالبت
أن اكون بينهم مواطنا
قدموا لي بطاقة المواطنة
و قدموا لي
جميع ما يستلزم البكاء
من أدوات
قدموا لي ألف منديل ورق
و صهريجا أعبئ فيه
ما يسيل من عيني
ساعة البكاء
و بعد خطبة قصيرة
كثيرة الدموع
طولبت بالبكاء
لم أكن أملك من الدمع
مقدار دمعتين
و عندما وقفت بينهم
ساعة و ساعة
و ساعتين
و حدقت في النخل
وفي البيض
وفي أعمدة الكهرباء
لم ينهمر دمعي
و عندما تنبهوا.. واحداً
فواحداً
أن عيني يابستان كأيام
الشيخوخة
ملأوا ساعتها مسامعي
بالصراخ
و رموني بالصغير و الكبير
من الحجارة
ثم أغلقوا باب مدينتهم
دوني
عند باب المدينة
نبت الدمع تحت جفني
كما تنبت المياه في البحار
هكذا يدخل الشاعر التجاني سعيد مدينة البكاء و هو لا يملك من الدمع مقدار دمعتين ، ها هو الشاعر الذي لا يملك دموعه يطالب بالمواطنة في مدينة البكاء ، إنه لا يملك شروط المواطنة ، لا يملك دموعه ، و رغم أن سكان المدينة قدموا له بطاقة المواطنة و ما يستلزم البكاء من أدوات إلا أنه لم يستطع البكاء، لم ينهمر دمعه فكان أن طُرد الشاعر الذي لا يملك من الدمع مقدار دمعتين من مدينة البكاء و أغلقت بوابة المدينة دونه، و لكن عند بوابة المدينة انهمر دمعه و نبت تحت جفنه كما تنبت المياه في البحار ، لذلك اختار الشاعر لقصيدته هذا العنوان - قصة الخروج - الخروج من مدينة البكاء تلك التي دخلها الشاعر بدون دموع. وبين دخوله و خروجه تتكثف الصور الغريبة التي هي أهم ملامح هذه المجموعة الشعرية و التي صدرت في منتصف السبعينات من القرن المنصرم تحت عنوان - قصائد برمائية - و هي المجموعة الوحيدة لهذا الشاعر الذي صمت عن الشعر تماما. و الشاعر التجاني سعيد يعرفه جمهور أغنية الفنان الموسيقار العظيم محمد وردي من خلال أغنيتين جميلتين هما - من غير ميعاد - و - قلت أرحل. و هذه المجموعة الشعرية - قصائد برمائية - تعلن وتشهر عن خيال فذ وقدرة على توليد الصور الشعرية ذات الكثافة العالية ، بل على التفكيك التعبيري والخروج به من حالة ثباته إلى حالة من الحركة التي تكمن دائما في ذلك النسيج الذي يحاول أن يجمع بين النقائض ، كما أن الشاعر استعان في بناء قصيدته ذات الملمح النثري على الإحالة الدرامية العالية فهو يقدم من خلال قصيدته حالات درامية متفجرة المعاني. ويمكن القول إن قصيدة النثر في السودان يمكن أن تتباهى بما أنجزه الشاعر التجاني سعيد في هذه المجموعة الشعرية و التي من عنوانها - قصائد برمائية - تحاول أن تدخل القارئ في أجواء وعوالم غرائبية، بل أنها تهز وتشكك القارئ في قناعاته الشعرية و تربك ذائقته الشعرية المتراكمة من قبل ، أولا لنبدأ بالعنوان الذي وضعه الشاعر لهذا المجموعة - قصائد برمائية - ، إذن هي قصائد بين البر والماء ، هي قصائد موجودة بين نقيضين ، بين حالتين ، هل هناك قصيدة برية و أخرى مائية؟ ، ترى كيف نستطيع أن نتذوق هذه القصيدة البرمائية؟ ، سأحيلكم إلى ما كتبه الشاعر في تقديمه لهذه المجموعة بعد ان نتأمل عناوين هذه القصائد البرمائية :-
1 / مدخل عدمي
2 / الانسان و الأسماك
3/ ورقة ميتافزيقية
4/ أغنية عن التفرد
5/ حديث عن رقم بالغ الأهمية
6/تقرير
7/ مدينة من البلاستيك
8/ أحزان صالحة للنشر
9/ الديمقراطية و الصابون
10/ من سلسلة اكتشافاتي الذاتية
11/ تلخيص لما دار بيني و بين هجسياس- الناصح بالموت -
12/ دعوة قابلة للنسيان
13/ تمييز
14/ قصيدة البحر
15/ ميلاد
16/ قصة الخروج
17/ كلمات صنعت خصيصا للسودان
18/ البقية في الحلم القادم
19/ وصفات من كتاب الشقاء
نسيت قصيدة بعنوان - إعلان عام للعصافير - و أظنها تحرضني بذلك النسيان على أن أهديها للقارئ
ستذبل غدا و بلا استثناء
كل الأغصان
و الأوراق الموجودة في الغابات
وتلك التي في الحدائق
بنوعيها الخاص و العام
لأن جميع الأشجار
ستصير غدا أحجار
وذلك لأمر خاص
يتعلق فيما يتعلق
بشؤون الخلق
و ليس مهما أن تعرفه
كل المخلوقات
فعلى كل العصافير
الغائبة و الحاضرة
و التي هي بين
الغياب و الحضور
أن تحول أعشاشها
و مساكنها
و الأماكن التي تقضي فيها
أوقات الفراغ
إلى أماكن أخرى غير
الأشجار
لأن الأشجار
ستصير غدا أحجار
وذلك لأمر خاص
يتعلق فيما يتعلق
بشؤون الخلق
و ليس مهما أن تعرفه
كل المخلوقات
فيمكنها مثلا
أن تبني أعشاشها فوق
الأحجار
لأن الأحجار
ستصير غدا أشجار
و ذلك لأمر خاص
يتعلق فيما يتعلق
بشؤون الخلق
و ليس مهما أن تعرفه
كل المخلوقات
و نحذر نحن جميع العصافير
الغائبة و الحاضرة
و التي هي بين
الغياب و الحضور
من أن تسكن روؤس الأطفال
أو فوق الأشياء الممنوعة
مثل جميع الممنوعات
هذا إن فعلته العصافير
بوعي و بلا وعي
فسيكون الحكم عليها
صعبا للغاية
فقد تكون بلا مكان
و قد تظل بلا ظلال
فتبقى مهاجرة إلى الأبد
إلى الأبد
إن قصيدة الشاعر التجاني سعيد في هذه المجموعة تستند على غرائبية مكثفة و تتلاعب بالنقائض محيلة الصور الشعرية إلى حالات تستدعي التأمل الفلسفي العميق. و يبدو أن الشاعر قد استند على تأملاته الفلسفية في كتابة هذه القصائد. وقد نذكر جنوح هذا الشاعر في نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات حين كتب عددا من المقالات التي نشرت في الصحف و المجلات ، ذلك الجنوح الفلسفي الذي قاده إلى الغوص عميقا في ذلك الاشتباك بين عوالم الصوفية و تلك المقاربات الدينية، كما نلاحظ أن قصيدة التجاني سعيد في هذه المجموعة لها تماس واضح مع مفهوم ما يسمى بأدب اللا معقول وهو أدب يعتمد على الأحلام والكوابيس و الصور و الرؤى الغرائبية.
وها هو الشاعر يقول في تقديمه لقصائده البرمائية -:- ((هذه بعض القصائد التي كتبت في الحلم ، حيث يتحرر العقل من كل ما هو عقلي و يرتاد كل الأمكنة التي يكون المنطق فيها محظور التجول .
إن الحلم هو الحقيقة التي لا تحتاج إلى إضافات الزمان و المكان ،إنه المنطقة التي نرى منها العالم كما هو في ذاته أكثر وضوحا وأقل إضطرابا.
و هذه القصائد - عزيزي القارئ - إن أنت قرأتها كجميع ما قرأت لن تجد فيها الوجه الحقيقي للحلم، لأنها لا تحتمل أن تكون كذلك وأنت تقرؤها من منطقة اليقظة ، فالذي يريد أن يرى أصل هذه الصور بوضوح عليه أن يدخل منطقتها، أي أن يقرأها بشكل حالم حتي يتطابق معها فيراها و بذلك وحده يرى كيف كنت احلم)).
إذن الشاعر يشترط علي القارئ أن يدخل على قصيدته من منطقتها - منطقة الحلم - لأن قصيدته تلك الغرائبية لا تحتمل أن تُُقرأ من منطقة اليقظة
أخاف جدا و بقدر المستطاع
من الأشجار التي ما تزال
تكمن في البذور
و من البذور التي ما تزال
تكمن في الأشجار
من الأمطار التي تكوِّن
البحار
و من البحار التي تكوِّن
الأمطار
من النهار الذي يولد الليل
و من الليل الذي يولد النهار
من الميت الذي يُخرج الحي
و من الحي الذي يُخرج الميت
أخاف جدا و بقدر المستطاع
من كل الأشياء و أضدادها
و من كل الأضداد و أشيائها
و يقلقني أشد ما يقلقني
أن تلد الأشياء الأشياء
أين الطفل- أ - الذي
حين يشب الطفل - ب -
سينجبه؟
بسؤال اكثر عفوية
من أين يجيء الاطفال ؟
إن الآراء التي لخصها
العالم إكس
تقول :-
إنهم يأتون من الطعام
الذي يصير دما
و الذي يصير علقة
فمضغة
فطفلاً
حسن جدا
حسن جدا
ففي كل قطعة خبز
يوجد إذن مشروع طفل
و في كل المعلبات
و الخضروات
و قصب السكر
توجد إذن مشاريع أطفال
و ما المشاريع الزراعية
إلا مشاريع أطفال
و مجمل النظرية :
كل ما ، نأكله يتحول
إلى اطفال
فلماذا إذن نأكل أطفالنا ؟
أخاف جدا و بقدر المستطاع
من الأشياء
التي تلد الأشياء
في عوالم هذه المجموعة - قصائد برمائية - نجد أن الفرح ليس الفرح إنما هذا اسمه و القمر ليس القمر إنما هذا اسمه، و الغضب ليس الغضب و إنما هذا اسمه، و الأسماء جميعها ليست الأسماء إنما هذه أسماؤها. و نجد أن خلاص الإنسان الوحيد هو أن لا يسأل عن الخلاص و أن على الإنسان أن يعتمد على ما به من أشياء فيبصر عينين بعينيه وأن تهضم معدته نفسها، نجد أن الضوء يرحل عن مصدره و أن كل ما هو من نفسه يفيض إلى نفسه وأن الصباح عقيم يضيع فيه ما يضيع وأن الصفر نهاية الأرقام وأن هنالك حكيما يمكنه أن لا يفعل كل شيء وأن يفعل كل الأشياء وأن الداني ناءٍ و المنتظم فوضويٌّ و الغامض غامض حتى درجة الوضوح وأن الأشياء تصعد صعودا تهابطيا و نجد أن هنالك مدينة من البلاستيك ، أرضها من البلاستيك ، شمسها من البلاستيك ، أحلام ناسها من البلاستيك، دموعهم من البلاستيك، وقتها من البلاستيك ، في هذه العوالم نجد من يتحسس حبيبته بحاسته العاشرة ليعرف أنها تمتاز برائحة النجوم و أنها تمتلك جميع خصائص الأرقام فأحبها بقدر من التكور والتمدد فأجلسها على حافة ذاكرته حتى لا يراها فيستعمرها. و نجد أن جيفارا قد اختنق بغاز النسبية و أنه لم يقو أن يصبح سطراً خارج قاموس الرجعيين و صناع الثورة وأنه لم يقلب أبدا عينيه داخل رأسه أو إلى أسفل بطنه، وأنه لم يبصر أبدا مجرى البول و عمليات البنكرياس مذهلة التعقيد و لم يعرف إلى مصرعه أسباب الصلع و سقوط الشعر، لذلك كان تعيسا وكان يفضل الصابون البودرة على الصابون الجامد و هذا سر شقاء الإنسان ، في هذه العوالم نجد من كان يجهل أو لم يكن يعلم قبل ساعة قط أن جميع خطوط الإمدادات العسكرية بين عينيه و ذاكرته قد قُطعت نهائيا ربما بفعل فاعل أو بفعل الانفعال وأنه بحاجة إلى الأمم المتحدة لتعيد له معنى الأشياء وتقف معه ضد كل انفعال جديد، و ها هو لم يعلم قبل الساعة قط انه حين كان في المهد صبيا ابتلع بعض الزلازل و توضأ ببعض الأعاصير ، و ها هو يجهل أن العالم في جملته لا يهرب إلا من قدر الله لقدر الله وأن التوابيت الرخامية المصنوعة من عظام الأشجار هي أنسب الفنادق للمسافرين في الشتاء لذلك هو يحلم أن يجد فيها بعض الراحة و الخدمات الجيدة بعد سفر طويل، في هذه العوالم نجد من يترنم بأغنية قديمة اسمها موت البكتريا، و ها هي اللغة تنتفخ لتصبح كالأرقام، و ها هي غابة بلا شجر و نهر ليس به ماء و ابتسامة تبحث عن فم و ها هي امرأة ثاقبة كالبرق و مفجعة كالانتباه و ها هو من يهتف قائلا :-
تسقط الأشياء اللزجة
تسقط الأشياء الزجة
عاشت المواصلات البرية
وفي هذه العوالم نجد هذه الوصية ذات المغزى الغريب
أيها الإنسان
أقم الحداد فجأة على
أسنانك
و على أنفك
وعلى أصابعك العشرين
أقم الحداد على نفسك
بجميع الأجزاء
بالمدخل والمخرج و الغدد
الصماء
بالمعدة و القولون
بالرئتين و بالأعضاء المستترة
و افترض أنك افتقدتهم في
حادث حركة
أو في مصنع لفقد الأجسام
أو أي معركة
دفاعا عن أي شيء
و بعد أن تحزن كثيرا
و تبكي كثيرا
و تنتهي أنت و أصدقاؤك
من مراسم الحداد
انطلق في الطرقات وحدك
اتحدْ بالأشياء بشهوة
اتحدْ بالأرض و السماء
اتحدْ بالناس
و الغبار و المنازل
اتحد ... اتحد ... اتحد
إتحد بكل ما يعطيك قدرا من المساحة
ثم عانق الأشياء بقوة
هذا تجول سريع و إنتقائي في عوالم الشاعر التجاني سعيد من خلال مجموعته الشعرية - قصائد برمائية - و هي عوالم مدهشة لا نملك إزاءها إلا ذلك الطرب الشفيف الذي تحرض عليه الفكرة العميقة جميلة التناول. و يبدو أن قصيدة النثر تراهن دائما على جمال الفكرة و الصور الموحية و الكثيفة إذ أنها لا تراهن على الموسيقىى و الأوزان الشعرية لذلك قلت إن من حق قصيدة النثر في السودان أن تتباهى بهذه المجموعة الشعرية لهذا الشاعر المتأمل و الذي اعتبر صمته الشعري بمثابة خسارة، وخسارة فادحة للشعر في السودان ، لماذا يصمت شاعر بمثل هذه الكثافة في التعبير الجمالي عن أفكار تبدو ذات تعقيد فلسفي عميق ؟ كما أن الشاعر التجاني سعيد له ذلك الحضور البهي في عوالم القصيدة الغنائية ، اؤكد أن ذلك الصمت الشعري للتجاني سعيد من أهم خسارات المشهد الشعري في السودان لأنه من النادر أن يكون هنالك شاعر مثل التجاني سعيد له مذاقه الخاص و ملمحه المتفرد .
وهانذا أودع هذه العوالم الغرائبية الممتعة و المحرضة على التأمل الشفيف من خلال جمال العبارة الشعرية و عمق فكرتها بهذه القصيدة و عنوانها: البقية في الحلم القادم
مددت كفي المليئة بالفوضى
وأخذت كفك المليئة بالانسجام
و راقصتك مرة أخرى يا جميلة
كان الإيقاع جارحا و ملتهب الأطراف
و كنا نحن ساكنين بلا حراك
سألتك، بماذا تحلمين ؟
قلت لي :- بالخوف و الهجرة
و الأشياء التي ترفض التوقيت
عندها بكيت في الحين
و اندفعت من عيني اليمنى رصاصة
و من عيني اليمنى دمعة
الرصاصة أحرقت الحفل
و الدمعة أطفأت الحريق.
قلت لك أنت موسمي
و حديقتي الحافلة بالوعود
و أنا كما كنت أول مرة
لا أزال واقفا على لغم
فهل أمضي لينفجر ؟
أم أقف لأنفجر ؟
قلت لي :
يا حبيبي الذي تخشبت عيناه
اصنع من لحمك تابوتا و فأسا
التابوت لتنام فيه
و الفأس ليخرجك من التابوت
قلت لك إنك تائهة
وفي عروقك لا يوجد غير الفناء
ضحكت أنت
و ارتمت خصلاتك على مأتمي
وقلت لي دون انتباه
أيها النهر الذي فاحت
منه الأساطير
قلت لك :
سوف يقف الأفق على رأسه
و الحياة لن تكون ممكنة
و الحوانيت كلها سوف تغرق
في الريح و الحمضيات
و ربما ...
يصدأ ضوء المصابيح الجديدة
قلت لي :
أنت تحلم في الصحو
وتصحو في الأحلام
قلت لي
وقلت لك
وحين اكتمل الحلم
ما اكتمل الحوار
إن قصيدة التجاني سعيد تستطيع أن تسترق السمع للكهرباء و هي تدخل المنازل كما عبر هو في إحدي قصائده واصفا ذلك الذي كان اسمه ينام قرب اسمها بالضرورة ، ترى هل يجادل ذلك الصمت شاعرية التجاني سعيد ؟
إشارة أخيرة لا بد منها و هي أن الشاعر التجاني سعيد كشف أن مشروع - قصائد برمائية- كتابة مشتركة بينه و بين الأديب الصامت أيضا عثمان الحويج وأن الكتاب الذي صدر هو الجزء الذي قام بكتابته هو وقد قرأت مخطوطة الجزء الثاني من - قصائد برمائية - الجزء الذي كتبه عثمان الحويج والمخطوطة كانت بحوزة الصديق الناقد أحمد عبد المكرم ،وكانت هنالك فكرة لإصدارها عن دار الكاتب السوداني رحمها الله. و أتمنى أن يصدر الجزء الثاني من (قصائد برمائية) فهلا فعلت يا التجاني سعيد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.