لا خير فينا إن لم نقُلها.. لم يقلها في وجه النميري فكانت المواجهة والعزل { يعلم د. منصور خالد بعيوب تطبيقات الديمقراطية التعددية في السودان وقنّن لاستبداد النميري في دستور 1973م الذي وضعه هو وآخرون.. فهل يُقنِّن لاستبداد رئيس من الجنوب في السودان الجديد كان يأمله في قرنق؟.. هذا هو محور هذه المقالات ضمن إطار عام عن أزمة النخبة السودانية وإخفاقاتها حاكمة ومعارِضة ابتدرناها بنقد تجربة الإنقاذ منذ يونيو 1989م إلى العام 2010م. { منصور خالد وطبع عباد الشمس: انتهينا في المقال السابق إلى تشريح طبيعة التنظيم السياسي (وهو هنا الإتحاد الاشتراكي) وطبع زعيمه الفرد (النميري) وطبع قادته الفرعيين (وفيهم منصور خالد) انطلاقاً من تشريح المفكر الإيطإلى الألماني (روبرتو ميشال) في كتابه (الأحزاب السياسية) كيف ينغلق التنظيم على ذاته وتصبح المصلحة العامة والخير العام هي مصلحة قادة التنظيم الخاصة ونصيبهم من الخير بحيازاتهم البيروقراطية في علاقة الحزب بحكومته في نظام الحزب الواحد مع اتخاذ وضعية زهرة عباد الشمس يدورون مع الزعيم أين ما اتجه. { وأشرنا إلى مقالات دكتور منصور خالد وكانت تحت عنوان (لا خير فينا إن لم نقلها).. كما أشرنا أيضاً إلى رد دكتور إسماعيل الحاج موسي عليها تحت عنوان (أقدار الرجال ومصائر الشعوب). { تشريح روبرتو ميشال للتنظيم السياسي وتشريح جيمس بيل وكارل ليدن لطبيعة القيادة في الوطن العربي يشكلان لهذا التحليل الإطار النظري والذي نملأه بالوقائع الواردة عند د.إسماعيل الحاج موسي، وأيضاً الوقائع الواردة في كتاب د.منصور خالد (النخبة السودانية وإدمان الفشل). { النميري ومنصور خالد.. المواجهة والعزل: وقائعياً لنبتدئ بالمواجهة التي دارت بين منصور خالد والنميري وبعدها أبعد النميري منصور من وزارة الخارجية.. يقول منصور خالد عن واقعة تعليقه على طرح لوزير المالية وقتها (الشريف الخاتم ) يقترح فيه الخاتم وقفة مراجعة في مشروعات التنمية والحد من أي استدانة جديدة يقول منصور خالد (أذكر يومها انحيازي للشريف وقولي أنه لو كانت حكومة السودان شركة مساهمة، لانتهى أمرها منذ زمان عند مُصفّي الشركات.. كان ذلك الحكم التقريري هو السبب في إعفاء النميري لي للمرة الثانية من موقعي في وزارة الخارجية بعد أن نقل له أحد الوزراء ما دار في المجلس ووصفه ذلك الحديث بأنه: محاولة للانتقاص من انجازاتك التنموية يا ريس) ويواصل د. منصور خالد (أغرب من الإعفاء كان حديث النميري لي هل أغلقت بابي أمامك.. ألم أترك لك الخارجية تعمل فيها زي ما عاوز.. لماذا تقول مثل هذا الحديث أمام الآخرين)؟. { ما بين د.منصور.. و د.إسماعيل: هذا المشهد بين النميري ومنصور خالد والذي صوّره قلم الأخير نضعه مع مشهد آخر صوره قلم د. إسماعيل الحاج موسي.. نضعهما في إطار نظري هو تشريح (بيل) و (ليدن) لأنماط القيادة في الوطن العربي. { انتهى جيمس بيل وكارل ليدن في تحليلهما لخصائص العملية السياسية في الوطن العربي إلى أنه بصرف النظر عن الأنماط التي يمكن أن تصنّف إليها القيادات العربية فإن كافة هذه القيادات تعبر في ممارسة السلطة عن الحكم الأبوي الرعوى.. ففي أي نظام سياسي عربي دائرة ضيقة من السكرتاريين الخصوصيين والوزراء والقادة العسكريين وأهل الثقة من الأقارب وغيرهم ورغم خضوع وولاء أعضاء هذه الدائرة للقائد الأعلى إلا أنهم يمثلون لمن هم دونهم درجة تأثير قادة فرعيين وإذا كانت العلاقة الأفقية بين هؤلاء القادة الفرعيين أساسها التنافس والصراع في ظل اتجاه القائد الأعلى. فإن الأخير يضع كل منهم في مواجهة الآخر فالعلاقات الرأسية بين القائد الأعلى والقادة الفرعيين أساسها ولاء الآخرين وخضوعهم لشخصه ويتنافس هؤلاء القادة الفرعيون فيما بينهم لإظهار قوة الولاء للقائد الأعلى ومحاولة التواجد بالقرب منه، والقائد الأعلى بدوره يشجع ذلك التنافس والصراع حتى تظل له السلطة العليا ولكن متى حاول أحد هؤلاء الأعضاء أن يتحدى سلطة القائد الأعلى أو يحيط نفسه بشعبية أو بعض شلة مؤثرة لتصير له قاعدة للتأثير السياسي مستقلة عن شخص القائد، فإن الأخير يستبعده من الدائرة الضيقة ويستبدله بآخر من المنافسين وقد لا يتردد في استئصاله بقوة. { نأخذ من هذا الإطار النظري عبارة (رغم خضوع القادة الفرعيين للقائد الأعلى إلا أنهم يمثلون لمن هم دونهم درجة تأثير قادة فرعيين) يقابل ذلك وقائعياً من حديث النميري لمنصور خالد (ألم أترك لك الخارجية تعمل فيها زي ما عاوز) ونذكر هنا (شلة أولاد منصور في وزارة الخارجية). { ونأخذ من الإطار النظري عند (بيل) و (ليدن) أن (العلاقات الرأسية بين القائد الأعلى والقادة الفرعيين أساسها الولاء والخضوع لشخصه. يبدو أن منصور خالد حرص على إظهار الولاء أمام النميري ولم يقل عبارته (لا خير فينا إن لم نقلها) في وجه النميري عندما كان منصور جزءاً من السلطة وهذا يفسِّر قول النميري له بصدد واقعته وأقواله في حضرة الشريف الخاتم وآخرين (لا في حضرة النميري).. قول النميري لمنصور: (هل أغلقت بابي أمامك.. لماذا تقول مثل هذا الحديث أمام الآخرين)؟. { وأيضاً لنضع الآن مقاربة بين واقعة المواجهة بين النميري ومنصور خالد وأقوال د. إسماعيل الحاج موسي في رده على منصور في (أقدار الرجال ومصائر الشعوب) يقول د. إسماعيل: (من أخطر مزالق الرجال التي قد تؤدي إلى مزالق الشعوب والأمم أن يعمل الرجل العام بأوجه كثيرة. قناع صمت وإرضاء في مكان، ثم قناع ضجيج وإفتاء في مكان آخر). { يفسر قول د. إسماعيل هنا (صمت) د. منصور خالد إذ لم يقل رأيه سالف الذكر أمام النميري (وضجّ به وأفتى) في مكان آخر.. ويفسِّر هذا قول النميري لمنصور (هل أغلقت بابي أمامك.. لماذا تقول مثل هذا الحديث أمام الآخرين). { ويواصل د. إسماعيل تحت ذات البند واصفاً منصوراً وآخرين من قيادات مايو (بأنهم يكتفوا بالمسايرة في مواقع المسؤولية ثم يستأسدوا ويستنسروا ويصولوا باللسان والقلم عندما يبتعدون أو يُبعدون، والأمثلة كثيرة). { أيضاً نأخذ من الإطار النظري ل (بيل وليدن) قولهما (يضع القائد القادة الفرعيين كل منهما في مواجهة الآخر). { ومواجهة كل فرد بالآخر وكل تكتُّل بالآخر كانت سياسة النميري للاستمرار في السلطة بشهادة منصور خالد وهي ذات السياسة التي جاءت بمنصور خالد كمرحلة تجاوزها النميري فيما بعد. { يقول د. منصور خالد عن فشل نظام مايو ومحاولة النميري إلقاء أسباب الفشل على السياسيين وتهديده بعسكرة النظام : قرر النميري إعلان الحرب على المؤسسات السياسية التنفيذية.. كان واضحاً أن الرئيس يبحث له عن كبش فداء لأخطاء النظام واختار كبشاً عظيماً.. حمَّل الرئيس قيادات العمل السياسي والتنفيذي المسؤولية عن كل شيء.. الإضرابات ، فشل المصالحة الوطنية ، الشللية في التنظيم. ثم أخيراً عجز الإتحاد الإشتراكي.. ما كانت غاية نميري من تلك المجابهة الموهومة إلا ممارسة للعبة أجادها هي دفع الناس بعضها ببعض.. الجيش ضد التنظيم السياسي.. القدامى من أهل النظام ضد القادمين من رجال المصالحة الوطنية.. الزئبقيون من سدنة النظام ضد أهل المبادئ. { منصور أدان لعبة المواجهة وهي سبب سطوع نجمه: لعبة المجابهة بين الأطراف والتي أشار إليها منصور خالد هي التي جاءت به وبصحبه التكنوقراط تحت صولجان النميري (مبررين) له و(مقنّنين) إذ بدأ النميري بالشيوعيين والقوميين العرب ثم الشيوعيين جناح معاوية سورج والقوميين العرب ضد جناح عبد الخالق ثم التكنوقراط ضد معاوية والقوميين العرب والموجة الأخيرة من أبرز طرحها الدكتور منصور خالد. { فرضية في مقابل فرضية منصور خالد: بصدد منهجية د. منصور خالد فهو أحياناً يطرح فرضيات منطقية قد ينتج التحقق منها وقائعياً وجهاً للحقيقة.. وأيضاً بالمقابل فإن من حقنا طرح فرضية منطقية قد ينتهي التحقق منها وقائعياً إلى إقرار وجه من أوجه الحقيقة.. والفرضية هي ما هو نوع المساومة التي تمت بين النميري والتكنوقراط وما هي أبعادها الداخلية والخارجية ومنصور خالد أقرَّ بأن النميري كان العامل المشترك في كل (المايوات).. وبالتالي هو العنصر الفاعل والمحرك في مايو الثانية التي جاءت بمنصور خالد والتي جاءت وفق الأمر الجمهوري الخامس وعلى مقررات هذا الأمر تمت صياغة دستور 1973م من قبل منصور خالد وآخرين. { يقول الدكتور منصور خالد في (النخبة السودانية): بداية مايو الثانية هي الرابع عشر من أغسطس1971م اليوم الذي أصدر فيه مجلس قيادة الثورة الأمر الجمهوري الخامس ليحكم به السودان إلى حين وضع الدستور الدائم واستفتاء الشعب عليه وكان النظام فيما قبل يحكم البلاد بموجب أوامر أربع.. أقر الأمر الخامس ابتداع منصب لرئيس الجمهورية ليمارس صلاحيات مجلس قيادة الثورة الذي استقال طواعية مودعاً مسؤوليته للرئيس (القديم الجديد) على أن يقر اختياره باستفتاء شعبي فيما بعد كما نصّ الأمر على أن يمارس السلطة التشريعية مجلس الشعب المنتخب. {نميري (طائر الفينيق) بفعل منصور خالد وصحبه: الرئيس (القديم الجديد) الذي أشار إليه منصور خالد هو بالطبع النميري الذي أصبح جديداً بإرادته (الأمر الجمهوري الخامس) وجديداً (مشرعناً) بفعل منصور خالد وصحبه باستفتاء (متجدد) بلا مزايدات وبسلطات للنميري تنفيذية وتشريعية وفق المادة (106) من دستور 1973م التي تناولناها بالتحليل في المقال السابق. { قنّن التكنوقراط استبداد النميري.. إذ تلح علينا الفرضية المنطقية عن (المساومة بينه والتكنوقراط) وأبعادها الداخلية والخارجية وتغير توجه نظام مايو (في مايو الثانية). { مايو الثانية والعبور فوق الجماجم: اختلف التكنوقراط مع جناح معاوية والقوميين العرب حول توجهات النظام الداخلية والخارجية. { عن الاختلافات الداخلية يقول (تيم نبلوك) في كتابه (صراع السلطة والثروة في السودان: (كان عزم المجموعتين -جماعة معاوية والقوميين العرب - أن يقود الإتحاد الإشتراكي السوداني الحكومة المركزية وسلطات الحكومة المحلية لتحقيق التحوُّل الديمقراطي الإشتراكي. { أول من أزاحهم نميري لصالح التكنوقراط كانوا جماعة معاوية ثم القوميين العرب ومن بقي من هؤلاء أصبحوا مهمشين. { القِبلة صارت أميركا: يقول (نبلوك) عن خلاف القوميين العرب مع التكنوقراط حول التنظيم السياسي (الإتحاد الإشتراكي) ومهامه (إن التكنوقراط كانوا يركزون على التنمية من خلال الأطر الموجودة أكثر من محاولة تغيير طبيعة المجتمع السوداني ولم تكن تلك المؤسسات التي شكّلها النظام بالنسبة لهم أدوات للتغيير بل قنوات يمكن للنظام أن يكسب من خلالها التأييد ومشاركة الجماهير). { وعن الخلافات حول السياسة الخارجية بين التكنوقراط والقوميين العرب يقول نبلوك (إلى جانب الخلاف حول دور وواجبات المؤسسات السياسية كانت هناك خلافات عميقة حول السياسة الخارجية، كان التكنوقراط يميلون لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية التي قُطعت في يونيو 1967م لقطع الطريق أمام أي محاولة قريبة لتحسين العلاقات مع الإتحاد السوفيتي التي تضررت كثيراً إثر انقلاب يوليو 1971م ومنع أي خطوة نحو انضمام السودان للتحالف المصري السوري الليبي.. كما برزت خلافات أخرى حول الاستثمارات الخارجية وحول الرغبة في الوصول لاتفاق سلمي حول مشكلة الجنوب عن طريق التفاوض مع الجنوبيين). وعليه فقد أبعد النميري القوميين العرب لصالح التكنوقراط. { ونعود إلى وجاهة الفرضية المنطقية التي طرحناها عن احتمال المساومة بين النميري والتكنوقراط وإبعاد الشيوعيين جناح معاوية والقوميين العرب.. وأبعاد المساومة المحتملة.. الداخلية والخارجية. { عن سياسة السودان الخارجية في مايو الثانية في عهد منصور خالد والتكنوقراط - يقول نبلوك (في العام 1972م تم تبني برنامج صندوق النقد الدولي للتركيز الاقتصادي مقابل قرض تبلغ جملته 24 مليون دولار وبدأ كما لو كان صندوق النقد الدولي يدفع تكنوقراط السودان المحايدين لاتجاه يرغبون بالفعل بالسير فيه)، وقد تمثلت أهم عناصر برنامج صندوق النقد الدولي في هذه الفترة في الآتي: تغيير دور القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص ، حرية التجارة وإلغاء الدعم ، محاربة التضخم بتقليل الإنفاق العام ولا سيما الخدمات الاجتماعية، تخفيض سعر صرف الجنيه السوداني لتصحيح ميزان المدفوعات. { إعادة العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والوقوع في براثن صندوق النقد الدولي كان مهندسهما هو الدكتور منصور خالد. وكخلاصة فإن فشل مشاريع التنمية وانتهاء اتفاقية أديس أبابا إلى التفكيك على يد النميري كان سببهما تقنين التكنوقراط لاستبداد النميري في دستور 1973م وعلى رأسهم منصور خالد.. وطمع التكنوقراط في (الجُزر الحيازات) مثل جزيرة وحيازة منصور خالد في وزارة الخارجية حسب أقوال النميري السابقة له. وأيضاً انتهى الإتحاد الإشتراكي الذي أصبح بلا توجُّه اشتراكي حقيقي.. انتهى على يد التكنوقراط إلى مجرد ذراع للنظام. { الإتحاد الإشتراكي بأرقام نبلوك: وفي بحث أجراه تيم نبلوك حول الإتحاد الإشتراكي ضمنه كتابه (صراع السلطة والثروة في السودان) أثبت نبلوك أنه في الفترة ما بين 1977-1974م كانت نسبة بسيطة من الوحدات الأساسية للإتحاد الإشتراكي تتمتع بأي نشاط فمن بين 143 وحدة غطاها البحث في كل أنحاء البلاد كان لدى 51 وحدة منها فقط لجنة عاملة وبالإضافة لذلك وبالرغم من أن الإتحاد الإشتراكي هو التنظيم السياسي الوحيد والتأكيد في النظام الأساسي والوثائق التابعة له على دور لجنة الوحدة الأساسية في المشاركة الجماهيرية في صنع القرار، إلا أن نشاط الوحدات الأساسية انصبّ في مشاريع تحسين الخدمات المحلية). { ومن بحثه خلص نبلوك إلى الآتي: (هكذا وبالرغم من أن الإتحاد الإشتراكي لم يكن غائباً تماماً على مستوى القواعد إلا أنه لم يشكّل قناة فعالة للاتصال السياسي من أدنى إلى أعلى أو بالعكس. ورغم أنه كان للإتحاد الإشتراكي أهمية سياسية على المستوى القومي إلا أنه اكتسب هذه الأهمية باعتباره ذراعاً للنظام). الأربعاء القادم { النخبة السودانية وإدمان الفشل.. حوار مع الدكتور منصور خالد { منصور خالد ما بين مايو والحركة الشعبية { غيابُ البعد الخارجي في التحليل السياسي عند د. منصور خالد