«ما عارفة ليه الواحد يظل طوال العام يشكي ويحكي ويرمي اللوم على البلد ويقول بلدنا دي كلها مشاكل، تجيء الكتاحة نقول عليكم الله دي بلد شنو؟ تقطع الكهرباء نقول عليكم الله دي بلد شنو؟ الواحد يقيف في الشارع ما يلقى ركشة يقول عليكم الله دي بلد شنو؟ الواحدة راجلا يشاكلا تقول دي بلد شنو؟ حتى البيشيل ملحق في الامتحان يقول دي بلد شنو؟ تفتح التلفزيون تجيك المذيعة لوح الثلج تقول دي بلد شنو؟ الواحدة ما تلقى عريس تقول دي بلد شنو؟ ما عارفة ليه» ورغم كل ذلك ما أن تغادر هذا البلد إلى أي مكان خارجه إلا ويقتلك الشوق والحنين واللهفة لكل ذرة من ترابه، أنا شخصياً تعودت ومنذ أكثر من عشر سنوات أن أقضي إجازتي خارج السودان، وفي كل مرة أتوق للحظات المغادرة لمطار الخرطوم بعد أن أكون قد استهلكت نفسي طوال العام بالتزامات الأولاد ومشاكلهم والتزامات الحياة التي أصبحت في السنوات الأخيرة عبئاً على ربة المنزل، وتفرَّغ الرِّجال لتوفير (الكاش البقلل النقاش) وإن كان الآن وفي كثير من البيوت السودانية يكثر النقاش، لكنني ما أن تطأ أقدامي مطار البلد الذي أنا في زيارة إليه إلا ويقتلني الحنين على الفور، أشعر فجأة برعشة ورهبة وكأن جسدي قد ألف سخونة الجو و(كتَّاحة النهارية) أو أن عيوني ما عاد يكحلها إلا رؤية تلك الجباه السمراء الأبية وقطرات العرق تمطر من جبينها عنواناً لستر الحال وصبر الرجال. صدقوني، هذا الإحساس لم يفارقني باختلاف الدول أو المطارات فهو ذات الإحساس الذي داهمني في مطار دبي وذاته في الشارقة وذاته في دمشق وذات الإحساس في مطار القاهرة. «أقولكم حاجة»، أنا طول عمري حساسيتي مرتفعة تجاه الكثير من المذيعات السودانيات وأحسب أن بعضهن السبب في ارتفاع معدلات الضغط لدى كثير من السودانيين لدرجة أنني أتحاشى الكثير من البرامج التي يقدمنها لكن بالأمس القريب أجبرتني قوة خفية أن أشاهد برنامجاً قدمته الفضائية السودانية بعنوان (25%) تحدثت فيه الضيفات عن مغزى اشتراك المرأة السودانية في الانتخابات، ورغم أن المذيعة كانت كتمثال أبي الهول الذي يقبع مجسم له في لوحة جدارية أمامي وأنا أكتب هذه الزاوية؛ لكن، تخيلوا، أكملت البرنامج فقط احتراماً وتقديراً للثياب السودانية التي أمامي، لأنني كنت أبحث عن دفء البلد من خلالها، وطيبة أهلها في طيات ثناياها. صدقوني «بلدنا دي» جميلة لدرجة لا توصف، مشكلتنا الكبيرة أن الكل يعشقها من وجهة نظره، لتتعارض وجهات النظر، فيضيع هذا العشق ويبدو مشوهاً وغير واضح المعالم. نعم كان الله في عون المغتربين وهم يعيشون الغربة صباح مساء يفتقدون «الحنيَّة» ويمارسون بدلاً عنها الحنين المؤلم الذي يطعن الدواخل «زي الضريسة» أما من يظنوننا في نعمة لأننا نتجول في شوارع القاهرة وغيرنا في دبي أو أديس أو باريس فوالله «ما في نعمة أكثر من الواحد يكحل عينه بي شمس الصباح في الخرطوم أو بعيون أمه الحنينة»!! كلمة عزيزة الممارسة الديمقراطية التي صدرناها للعالم خلال الأيام الماضية أكدت أننا شعب متحضر والدليل لا يحتاج إلى كثير إثبات. كلمة أعز نعم أنا أحمل لواء الدفاع عن الشباب لكن رجاء لا تقربوا هذه الأغنيات، «وبكرة أوريكم كيف».