من ضمن ما أثار انتباه الزملاء الصحافيين الذين وفدوا إلى البلاد لتغطية انتخابات أبريل الماضي؛ كانت ظاهرة (ست الشاي)، إذ غطت تقارير مشهدية الظاهرة من عدة زوايا، ولتعميم الفائدة؛ اخترت لقراء (مسارات) هذا التقرير الذي نسجه الزميل (خالد محمود)، رئيس القسم الخارجي بصحيفة (الإمارات اليوم)، وهو سوداني الهوى، ومصري الهوية، وحمل التقرير عنوان (ست الشاي.. مقهى الفقراء النقّال)، فلنقرأ ما سطره قلم خالد محمود: (يطلق السودانيون لقب «ست الشاي» على صاحبة المقهى الرشيق النقَّال، الذي يتكون من صندوق سحري يتم فيه بترتيب معين وضع كل أدوات مقهى كبير في دقائق، كما يطلقون اللفظ على المقهى النقَّال ذاته، الذي يحظى - على عكس «الغرزة» المصرية المتشابهة ظاهرياً مع شكله- بسمعة طيبة، وحماية اجتماعية واسعة). (وفي هذا السياق؛ ينتصر الفنان جمال حسن سعيد لست الشاي في اسكتشاته الفكاهية والتوعوية، التي انتشرت أثناء الحملة الانتخابية في كل ربوع السودان، بعنوان «عذبتنا يا خلف الله» وكان من أجمل اللقطات في هذه الحملة؛ تلك التي يدعو فيها خير الله صديقه خلف الله إلى دفع ثمن الشاي المتأخر عليه لصاحبة المقهى المتنقل، بعد أن ادعى الأول الغباء، متجاهلاً أن عليه ثمن 156 كوب شاي، غير البخور. وبرزت ست الشاي في ذلك الاسكتش بوصفها امرأة سودانية، باحثة عن حقوقها، خصوصاً بعد أن عرفت أن لها حقوقاً سياسية مماثلة تماماً لحقوقها الاجتماعية وحقوقها المالية عند خلف الله). (وتنتشر في العاصمة السودانية الخرطوم عشرات المقاهي الصغيرة المتنقلة، تديرها جميعاً سيدات في العقد الثالث أو الرابع من العمر، كثير منهن من الجنوب أو الغرب أو مناطق شهدت نزاعات موسعة، وعلاوة على دولابها الذي عادة ما تخزِّنه آخر النهار بجانب أقرب مسجد أو كنيسة أو متجر كبير باطمئنان؛ يشتمل مقهاها الصغير هذا على طاقم الكراسي الخاص به، ويتكون في أحسن الأحوال من ستة أو سبعة كراسٍ، لا يزيد طول الواحد منها أو عرضه أو ارتفاعه على 40 سنتيمتراً، ما يجعل ضيوف المقهى النقال أشبه بالجالسين على الأرض). (صاحبة المقهى المتنقل أمام الكنيسة القبطية في شارع كورنيش النيل بالخرطوم، قالت ل«الإمارات اليوم» إنها تبيع في اليوم من (30) إلى (40) كوباً من الشاي والجَبَنَة، وإن هناك أكثر من (300) مقهى متنقل شبيه في شوارع الخرطوم، ثم استطردت «هذا الدولاب الذي تراه يضم موقداً صغيراً وبعض العلب والأكواب، يعيل أسرة من خمسة أفراد بينهم عروس يتم تجهيزها وطالب على أبواب الجامعة»، وتشير إلى أن زبائن مقهاها الدائمين من السائقين أو عمال المياومة أو البناء، لكن صديقتها التي تأتي لتدعمها و«تتونس» معها، تضيف أن شريحة رواد المقهى اتسعت لتشمل تجاراً وأفندية وموظفين وفئات من أعلى مستوى، حيث يعتبر «ست الشاي» هو مكان التجمع لكل من يريد أن ينجز مصلحة أو يلتقي أحداً خارج البيت ومكان العمل، خصوصاً لأمر عاجل). (ويرى الباحث السوداني أحمد عثمان أن ظاهرة «ست الشاي» تحمل دلالة إيجابية، سواء بتأكيدها جدارة ومسؤولية المرأة السودانية، ونزولها لميدان العمل، أو لتأكيدها الحميمية السودانية وسعيها المتواصل لخلق أشكال مختلفة للتواصل الاجتماعي). (لكن الصحافي محمد الأسباط؛ يعتبر «اختفاء المقاهي التقليدية في السودان وحلول عشوائيات ست الشاي مكانها مؤشر انحدار وتدهور، ويقول الأسباط «إن السودان عرف في الأربعينيات والخمسينيات مقاهي تاريخية عظيمة، أبرزها مقهى جورج مشرقي بأم درمان الذي كان منتدى للفنانين والملحنين، وخرجت منه أعذب الأغنيات السودانية، وكايرو جلابية الذي كان مقهى ثقافياً، بالإضافة إلى مقاه أخرى كانت أقرب إلى المنتديات السياسية»، «لكن المد الأصولي والمتشدد الذي برز في أخريات عهد جعفر النميري عام 1983 ظل يحاصر المقاهي الواحد تلو الآخر حتى اندثرت» حسب الأسباط. ويعزو الصحافي السوداني ظاهرة اختفاء المقاهي إلى «استمرار المد الأصولي ولو بدرجة أقل حالياً»، ولا يرى في «ست الشاي» أنها البديل الاجتماعي الإيجابي، بل يراها ثقافة سلبية عابرة ولدت وتغذت على العشوائية وأجواء التزمت، وعلى الحروب والكوارث التي حمّلت النساء مهمة إعالة أسرهن وأطفالهن، إضافة إلى وجود قطاعات مهمشة من الشباب في الشارع بسبب البطالة يبحثون عن قضاء ساعات يومهم في مكان غير مكلف). وعن حلمها في إدارة مقهى ثابت يوماً ما، تعلق بأن الإيجارات المرتفعة في الخرطوم لا تجعل لأمثالها حق الحلم بإقامة مقهى ولو على نصف متر، وتشير «ست شاي» تحدثت إلينا إلى مقهاها النقال بحب واعتزاز، وتقول إن ما ترجوه أن يبقى معها لسنتين أو ثلاث حتى ينتقل أولادها إلى بر الأمان، ويحملون مسؤولية حياتهم على الأقل.