إبان فترة إيقاف الجريدة والتحفظ على مكاتبها تحولنا إلى شجرة أطلقنا عليها مجازاً شجرة إشراقة وهي بائعة شاي وقهوة شابة ظريفة المعشر، لكن لسبب أو لآخر كنا نلتقي بعيداً عن النقاشات الساخنة ورهق الكلام في السياسة في مقهى شعبي بسوق بحرى.. تديره امرأة سودانية الحضور ..اخترناها لحضورها السوداني رغم ازدحام المكان بالبائعات القادمات من شرق أفريقيا، ورغم الوجوه الحسنة والزي الحضاري والتعامل الطليق ونحن نجلس هناك تارة.. وهنا تارة أخرى.. تذكرت المقاهي في مدينة أمدرمان ورغم أننا عندما كنا في بداية الصبا كان كبارنا يمنعوننا من الجلوس في المقاهي..لكننا كنا ننظر إليها من بعد ونحن نتمنى أن نصبح كباراً.. حتى نرتاد تلك المقاهي الساحرة. عرفنا أن المقاهي لعبت دوراً في تاريخنا السياسي والفني والثقافي.. فقد حكى لي أستاذنا الراحل المقيم قرشي محمد حسن ..أنهم كانوا يؤمون المقاهي وفيها تعرفوا على بازرعة وصلاح أحمد محمد صالح أمد الله في أيامهما، ورحم الله حبيبنا قرشي محمد حسن.. ذكر لي أن بازرعة كان يحضر من داخلية وادي سيدنا كل خميس ويقضون وقتاً جميلاً.. وثمة مقاهٍ كان يؤمها أفذاذ الحقيبة في بدايات العصر الحديث سيد عبدالعزيز وعبيد والعبادى بجانب المقاهي التي يؤمها الكتاب والممثلون أمثال خورشيد..ومحمود سراج..وحسن عبدالمجيد..وغيرهم من الإذاعيين.. وكنت فى سنة 2005 قد كتبت محذراً من المقاهي الأمريكية أن تجتاحنا وتقضي على المقهى السودانى لكن للأسف لا أزدهرت المقاهي السودانية ولا حلت محلها المقاهي الأمريكية.. وذات مساء قال لي رفاقي الشباب نذهب إلى مقهى «اتينيه» بالخرطوم وفرحت وتخيلت أن المقاهي عادت..لكننا لم نجد سوى ست شاي وحولها جماعات من الشباب ..عرفت أن معظمهم من المشتغلين بالأدب والتقانة والشعر ولكنهم يجلسون على «بنابر» امتلأت بهم ..ثم جلسوا على المساطب حول المكان ..وغني عن البيان أن مقهى «حليوه» الشعبى أصبح مشهوراً جداً.. أنا لا أطالب بعودة المقاهي إلى نمطها القديم فذلك من المستحيلات.. لكن أن نخترع بديلاً للمقهى..ولو بتطوير جلسات ستات الشاي إلى ملمح حضاري أكثر..عموماً لقد أحصيت من قبل وظائف المقهى.. وقلت إنه بعكس مايرى البعض في المقاهى موئلاً للتبطل والعطالة.. فهي مكان لعرض المؤهلات والتلاقي.. ومعروف أن بعض الحرفيين كنتَ تجدهم في السابق فى مقاه معروفة.. بجانب الفضفضة والترويح عن النفس.. والمقهى أيضاً ساحة لتلاقي الأجيال وتحاورها..بل لتلاقي القبائل.. فيتعرف البعض على ثقافات بعضهم فيحترمونها لأن ديموقراطية المقهى تفرض قبول الآخر..أيضاً تلتقي أجيال الشيوخ والشباب مع الأجيال الوسيطة.. كما أن في المقهى مجالاً لإشباع الشفافية التى درجنا عليها.. هل نحلم بأن يعود المقهى معاصراً فيه من «الكوفي شوب» ومن عبق المقاهي القديمة.. قهوة «ود الأغا».. ويوسف الفكي..وشديد.. والنجمة وغيرها..أم ذلك حلم بعيد المنال.