أزمة صامتة خلّفها إعلان التشكيل الوزاري، فعلى الرغم من العدد المقدر الذي ضمته التشكيلة ب 77 وزيراً؛ إلا أن هناك ما يقارب هذا العدد ممن كانوا وطَّنوا أنفسهم وأقاربهم وأصدقاءهم على أنهم من ضمن التشكيلة، وفوجئوا بأنهم خارجها، الأمر الذي شكل صدمة لهؤلاء، لا سيما بعد «التطمينات» التي حصلوا عليها بمثابرة لمعرفة مواقعهم، فضلاً عما بذلوه من توسلات بإبداء الولاء والطعن في الآخرين والحط من شأنهم، مع تزكية النفس وذكر جهادها ومجاهداتها. يقول أحد الذين تجاوزتهم التشكيلة بفعل الموازنات، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من المنصب - على حد قوله - الذي فضل حجب هويته؛ ل«الأهرام اليوم» إن بعض الذين وجدوا أنفسهم خارج التشكيل، ممن أتت بهم اتفاقيات السلام، هددوا في مجالسهم الخاصة بالعودة لغريمهم المنافس، فيما لاذ آخرون بالصمت الحزين، وأغلقوا هواتفهم وأبواب منازلهم، وطفقت طائفة ثالثة من أهل المؤتمر الوطني تقدح في القبلية التي ضيقت على حظوظهم، وتهدد في دوائر المقربين بمغادرة الحزب. ولم يخل اجتماع المكتب القيادي للمؤتمر الوطني الأخير، الذي اهتم بالتشاور حول الترشيحات، من لغة الترافع وتزكية النفس وذكر المآثر والعطاء الممتد، تارة تحت لافتة القطاع والفئة، وتارة أخرى يأتي الإلحاح في طلب الوزارة مباشرة وبدون مواربة، كما حدثنا المصدر. أما قيادات القوى السياسية من أحزاب حكومة الوحدة الوطنية السابقة؛ فاتخذ بعضهم من دار المؤتمر الوطني قبلة لهم قبل تشكيل الحكومة، يتوددون لمن يعتقدون أن له التأثير في اتخاذ القرار، قبل أن تمتد الزيارات عشاء إلى منازل بعض القيادات، التي يبدأ السمر النافع فيها بلعن أوكامبو والسخرية من مناوراته بعد فقدانه البوصلة، قبل أن ينعطف الواحد من هؤلاء إلى سيرة القيادات السياسية التاريخية والطعن فيهم وفي مواقفهم المتقلبة، لينتهي الحديث بتحديات المرحلة والهم الوطني وما يمكن أن يؤديه هؤلاء من خدمة للبلاد لو آلت إليهم وزارة كذا. أما الصراع داخل المؤتمر الوطني؛ فانحصر - بحسب المصدر -بين المتنافسين، من القادمين الجدد والسابقين، إذ يرفع الأُوَّل شعار «من صدق وليس من سبق» مقابل شعار من «سبق هو من صدق» للقدامى. «الشراهة»؛ المفردة التي انتقاها المصدر لوصف حالة الصراع على المناصب، قال إن سببها هو القضايا المفصلية الراهنة في تاريخ البلاد وعلى رأسها الاستفتاء، وما يسبقه من احتمال انقسام الدولة إلى دولتين؛ الأمر الذي سيترتب عليه تغيير الخريطة السياسية. المرشح لرئاسة الجمهورية منير شيخ الدين، وعند سؤالي له عن رأيه في التشكيل الوزاري؛ أفادني بأن التشكيلة وبالكيفية التي جرت بها كانت واقعاً لا يمكن تفاديه إذ لا بد من مراعاة الموازنات القبلية والجهوية والتنظيمية داخل الحزب، باعتبار أن النظرة القبلية أصبحت ثقافة في العمل السياسي، ومن الراجح تسفيه رأي الآخر مهما بلغ من وجاهة، لمجرد افتقاره إلى سند قبلي. ووصف التشكيل الوزاري بأنه مال نحو المعالجات الاحتوائية تجنباً لحدوث تصدعات إضافية بسبب الاحتجاجات الجهوية والقبلية. ويشير شيخ الدين إلى الأثر الاقتصادي السلبي المترتب على حجم الجهاز التنفيذي؛ على خزانة الدولة، ونسبة إلى إمكانية زيادة عدد الدستوريين حال إنجاز اتفاق سلام مع حركات دارفور بالدوحة. مستبعداً إمكانية إفساح المجال للقادمين من ذات مقاعد التشكيلة الحالية، وإنما الراجح هو استحداث معالجات لاستيعابهم. ويقطع شيخ الدين بضرورة مضي الأمور بالشكل الراهن والبلاد تتجه نحو الاستفتاء، وفي ظل معايشة حالات اضطراب في الجنوب والنيل الأزرق وجبال النوبة. وعزا العدد الذي اعتبره ضخماً للتشكيل الوزاري إلى الإشكاليات الإثنية والجهوية فضلاً عن الترضيات وهو ما يفسر طول مدة المشاورات في التشكيل بالإضافة إلى أن هناك ركائز أساسية في حكم الإنقاذ لم يكن من الميسور تجاوزها. الفئات والتيارات، هي القاسم المشترك في التشكيل، وليس البرامج، بحسب شيخ الدين، الذي يرى أن حكومة من 77 وزيراً سابقة تاريخية، ويقارن بحجم عضوية الحكومات في أمريكا وبريطانيا وروسيا، وكذلك الدول النامية، ويكرر: لا أجد سابقة. ويعتبر أن الأمر برمته استمرار لمرحلة حكم الإنقاذ ومجاراة لما ترتب على اتفاقية نيفاشا التي حصرت أمر الحكم بين القطبين الشريكين. ويذهب إلى أنه كان يتوقع بحسب تصريحات الرئيس المشير عمر البشير؛ أن تكون الحكومة ذات قاعدة عريضة تستوعب مجهودات الآخرين، لا سيما أن البلاد تمر بمنعطفات خطيرة، منها الاستفتاء ودارفور والمحكمة الجنائية، التي نشطت تحركاتها في الآونة الأخيرة. ويختم شيخ الدين إفادته قاطعاً باستمرار الصيغة التي بلورت تشكيل الحكومة بعد الاستفتاء على حق تقرير مصير جنوب البلاد، سواء انفصل أو ظلت البلاد موحدة، استجابة لذات الواقع الذي أفرز الحكومة المسماة. ويكشف المصدر مجاهدة قيادات من الحزب الاتحادي الأصل لدخول الوزارة بعد أن رفض الحزب عرض المشاركة الذي منح بموجبه 6 وزراء اتحاديين، وتمثيلاً ولائياً لعشرة دستوريين وبدون تسمية الوزارات، وبشرط الدفع باسمين لكل منصب لتختار قيادة الوطني أحدهما، وذلك بتسويق أنفسهم بمعزل عن الحزب، والحديث عن أهمية المشاركة في تنفيذ البرنامج الوطني للحكومة. المجالس الاستشارية هي البديل لاسترضاء الغاضبين الذين أقاموا «مجالس للكفارات»، يتوافد إليها بمنازلهم الأقرباء والأصدقاء، والطامحون. وبسؤالي للمصدر عن العبارات التي تتردد في هذه المجالس؛ قال إن بعضهم يقول «يا سيادة الوزير الحمد لله الذي أخرجك لتحافظ على تاريخك»، و«هؤلاء ليسوا أهل شراكة»، و«خيرها في غيرها». أما الذين شملهم رضا الوزارات؛ فكان بعضهم مشغولاً خلال اليومين الماضيين بالاستعداد، بإرسال الملابس إلى ال dry cleen وإقامة ولائم العشاء، والتفكير في الانتقال للسكن في المناطق الأكثر رقياً للذين يسكنون في أطراف المدينة. دمج الوزارات وليس تقسيمها في ظل الأزمة المالية التي تعيشها البلاد، والواقع الاقتصادي المتردي الذي تحدث عنه محافظ البنك المركزي مؤخراً؛ كان هو المأمول لدى نائب رئيس حزب الأمة القومي، اللواء فضل الله برمة ناصر، في إفادته ل«الأهرام اليوم» إذ قال إن العدد الكبير من الوزراء ليس له مبرر، لا سيما أن البلاد انتقلت إلى الحكم اللامركزي، فكان المطلوب عدداً أقل للتنسيق والإدارة. وأشار إلى أن الأمر لا يتماشى مع المصلحة العامة، لا سيما مع احتمال انفصال الجنوب. ويذهب إلى أن التشكيل الوزاري بهذا العدد؛ هو ذات ما يقصد به الصرف البذخي، ويتساءل: هل أصبحنا دولة رفاهية؟ في حين أن بريطانيا تقلص جهازها التنفيذي لتقليل المنصرفات، نجده يزداد توسعاً لدينا! ويفسر الأمر بأنه وظائف يجب أن توفر للكوادر الحزبية، فضلاً عن عامل الترضيات. ويشير برمة إلى العدد الكبير من الوزراء من أبناء دارفور من حزب واحد، ويرى أن ذلك لا يخلق التوازن المطلوب، بل يعمق المشكلة في ظل وجود حركات مسلحة تتفاوض وترغب بالمشاركة في الحكم. ويذكِّر برمة بأن الحكومة الإئتلافية في الديمقراطية الثالثة التي جمعت القوى الوطنية؛ لم يزد عدد وزرائها عن 28 وزيراً.