{ أحياناً أجد نفسي لائذة بالصمت في بعض المواقف ولعدة أسباب، بعضها باختياري، وبعضها يُرغمني على هذا الصمت، فالحرج مثلاً يرغم على الصمت، وضبطك مُتلبساً بخطأ فادح أو تقصير يُرغم على الصمت، وحين يمضي عزيز في تأنيبك ومعاتبتك ويكون على حق، فليس أمامك سوى الصمت، وكلما اعترت زوجي نوبة تقليدية من التذمُّر أو التهكُّم أو محاولات إقناعي بانشغالي عنه، تجدني أصمت إلى حين حتى تمر العاصفة بسلام، وبعد كل هذا وجدت أن من الصمت ما هو فصيح، وثرثار، وأصدق، وأكثر قدرة على التعبير من آلاف الكلمات. { لذلك بدأت أمارس الصمت باقتناع كبير، فهو مريح للأعصاب ويغنيك عن العديد من الأزمات الإنسانية، كما أنه يصلح كسياسة للعقاب، فهل جربتم اتباع سياسة الصمت مع شريك الحياة عند شعوركم بالغضب أو الحنق؟ جربوا أن تصمتوا عن الكلام والحوارات مع أزواجكم وزوجاتكم عندما تتفاقم الأوضاع وتتفجر، وستكتشفون أن الأمر ممتع وصحي لأنه يكفيكم شر (تأجُّج) نيران الغضب والكلمات الحادة والجارحة المتفلتة من بين الشفاه بلا رقيب، كما أن هذا الصمت يشعر الطرف الآخر بتأنيب الضمير، ويسمح له بالتفكير في الأزمة بهدوء ليكتشف أنه على صواب، بينما تستفز سياسة الثورة والجدال روح العناد والمكابرة الفطرية بأعماق النفس البشرية، فنتشبث بمواقفنا وآرائنا حتى وإن كنا على خطأ، ولكنها سنة الحياة. { ولكننا نحفظ عن ظهر قلب العبارة الشهيرة (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) وكلنا نعلم أن الذهب (طار السما وما بتلحق)، لذلك يجب أن يتسع وعينا بقيمة الصمت وبأهميته كجواب عن سؤال أو التعبير عن موقف يعتبر الصمت فيه خير جواب وتعبير. { لقد علمتني التجربة كم أن في الصمت حديثاً ومعاني وفوائد، وكيف يرتقي الإنسان بوعيه حين يحترم عقله ويضبط انفعالاته ويتصرف بحكمة ويلزم الصمت، وأنا أعلم أن الأمر مرهق وعسير وصعب التنفيذ، ولكنه يحتاج إلى الترويض ليصبح طبيعة معتادة، وعندها سنشعر بالكثير من الارتياح بدلاً عن الرهق الذي نعانيه ونحن نجاري المستفزين، فكلما شعرت بأن هناك من يحاول الاستخفاف بإمكانياتي والإساءة إليَّ ولو على نحو شخصي؛ تسربلت بالصمت، وكلما جمعتني الظروف بمن لا يحترم عقله ويتمادى في سرد تفاصيل سذاجته وغبائه مستعرضاً عضلاته التحقيرية للتقليل من شأن الآخرين حتى لو عبر تزييف الحقائق؛ قررت أن ألجأ إلى الصمت طائعة مختارة، وكثيراً ما يبدأ من أمامك في الكذب متعمداً في محاولة منه (لتكبير كومه) وليس أمامك سوى الصمت الساخر لتشعره أنك على دراية بما لم يقله، فمن عيونك يمكنه أن يسمع صوتك وهو يملأ أذنيه بالشفقة والاحتقار. { إذن، هو الصمت الفصيح المليء بالتعبيرات، الذي يضج بالاحترام للنفس وللإنسانية، وهو الصمت المريح حتى وإن لم يكن مرضياً لنزعتنا الإنسانية الميالة للثأر والدفاع الفطري عن النفس ومحاولات إثبات الذات، حتى لو عن طريق سلاح اللسان البتار، ورغم أن سياسة الصمت حيال ثورات الغضب، ولحظات العتاب واستخفاف الآخرين بطاقاتك وإمكانياتك وعقلك أكثر إيجابية فقط في حال تصالحت مع ذاتك وروضت نفسك على هذا الصمت المرهق. { فتعالوا نصمت (ونعمل رايحين) والبعض يجتهد في إفقادنا ضبطنا لأنفسنا، فربما هي محاولة منه للفت الأنظار أو التقليل من شأننا أو تقليل احترامنا لأنفسنا وتعريتنا من وقارنا أمام الناس، تعالوا نصمت ونعرض ونتغافل فهذا أنكى وأشد عقاب يمكن أن تتخذه مع أحدهم، تعالوا نصمت، أمام الرسائل الصفيقة والتعليقات اللاذعة ونظرات الاستخفاف وعبارات (المطاعنة) والإساءة المباشرة وغير المباشرة التي تمارسها النساء خاصة في مجتمعاتهن المغلقة، وتأكدن أنها من باب الغيرة والحسد لا غير، فلا تردي ولا تنحدري لمن هي أقل منك شاناً واعرفي قدر نفسك الحقيقي ليرحمك الله من هذا العذاب وقدر نفسك الحقيقي يكمن في قدرتك على الصمت. تلويح: (كلما اتسعت الرؤية.. ضاقت العبارة).