تعرفت على المناضلة السودانية فاطمة أحمد إبراهيم، في صيف عام 1986 في الخرطوم، أثناء الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام "جعفر النميري" بعد عصيان مدني عام، شاركت فيه الأحزاب والنقابات المهنية والعمالية والاتحادات النسائية والزراعية. كنت أقف في شرفة الفندق الذي أقيم فيه وسط الخرطوم، حين أحاطت به مظاهرة تقودها امرأة نحيفة القوام، يجلجل صوتها وسط جموع المتظاهرين، وهي تردد خلفها بثبات وثقة هتافها: لن يحكمنا البنك الدولي، لن يحكمنا الاستعمار. كنت على موعد معها في مساء نفس اليوم لإجراء حوار لصحيفة الأهالي، حين دخلت بيتها الأنيق والمتواضع، وجدت امرأة دقيقة الملامح، خافضة الصوت، لكنها تتكلم بتدفق وطلاقة وثقة بالنفس، رغم الحزن العميق الذي يغلف نبرات صوتها . قالت بحسم لن يتخلى شعبنا الصامد الصبور، عن إلغاء قوانين سبتمبر التي أقرها نميري للمتاجرة بالدين وتأكيد ديكتاتورية حكمه، ولن يتوقف عن المطالبة بمحاكمة نظام نميري ومصادرة ثروات أقطابه غير المشروعة .. قدم الشعب السوداني كما قالت تضحيات جسيمة ليحقق طموحه في الحرية والانعتاق من الفقر والقهر والاستبداد برغم ثرائه الثقافي والعرقي والقبلي، لكي يلحق السودان بمصاف الدول الديمقراطية المدنية الحديثة، لهذا لن يتخلى أبداً عن مطلبه بجمعية تأسيسية تصيغ دستورا لتحقيق أحلامه العادلة، الدين فيها لله والوطن للجميع. قبل هذا اللقاء، كنت قد تعرفت على اسم فاطمة أحمد إبراهيم حين أقامت الدنيا ولم تقعدها، ضد المحاكمات العبثية والشكلية التي أقامها نميري لقادة الحزب الشيوعي السوداني في يوليو 1971، في أعقاب انقلاب "هاشم العطا" وعدد من الضباط أعضاء الحزب في صفوف الجيش، وأنتهى الانقلاب بعد ثلاثة أيام من وقوعه، بعد الدعم الحاسم الذي حصل عليه نميري من الرئيس السادات والزعيم الليبي معمر القذافي، وهو الدعم الذي شكل سنداً رئيسيا في فشل الانقلاب، وتعجيل نميرى، بإعدام القادة المؤسسين للحزب الشيوعي، برغم أنهم لم يكونوا من مؤيدي الانقلاب، كان بينهم رفيق فاطمة أحمد إبراهيم في الحزب وزوجها القائد العمالي "الشفيع أحمد الشيخ"، الذي استشهد وهي في ريعان شبابها، ولم يكن أبنهما الوحيد يتجاوز من العمر ثلاث سنوات، فحملته على كتفيها وجابت به كل المعتقلات التي أودعها فيها نظام نميري . بوعي وبصيرة نافذة، أدركت فاطمة أحمد إبراهيم، أن بلدا فقيرا كالسودان لن ينهض من كبوته بدون نسائه، فوهبت حياتها لتشييد جبهة نسائية لا تناضل في سبيل حقوق النساء فحسب، بل تتصدى لكل أنواع الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلادها فأسست الاتحاد النسائي السوداني، وأصدرت باسمه مجلة "صوت المرأة" التي لعبت دوراً تثيقيفا وتنوريا في تاريخ السودان، لم يكشف عنه بالشكل الكامل حتى الآن، وتمكنت بقدرتها الشخصية على التأثير في النساء، من قيادة حملات لتعديل قانون الأحوال الشخصية، وقوانين العمل لتحصل المرأة على أجر مساو للرجل في العمل الواحد، كما ألغت قانون الطاعة وعقد العمل المؤقت، وناهضت ختان الإناث، ولم يكن انتخاب فاطمة أحمد إبراهيم كرئيسة للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي عام 1991 سوى اعتراف دولي بالدور الرائد الذي قامت به لخدمة المرأة في بلادها، سواء بالتصدي للهوس الديني بنشر الثقافة وبناء الوعي الذي اتخذ من المرأة عدواً له في السودان، أو للاستبداد السياسي الذي أضطرت معه أن تعيش بقية عمرها منفية في العاصمة البريطانية لندن . المؤكد أن كل الذين حرموا مناضلة من طراز فريد مثلها من الحياة الحرة الكريمة داخل وطنها، ونكلوا بأمن واستقرار وحدة السودان، ونهبوا موارده وثرواته سيتوارا في صفحات التاريخ لتبقى فاطمة أحمد إبراهيم متصدرة لصفحاته كأيقونة من أيقونات الصلابة والنزاهة الفكرية وإبداع النساء السودانيات . وستبقى أحلامها الكبيرة، تمتلك من القدرة على البقاء ومواجهة وعورة الطرق والخيبات الكبيرة والصغيرة، بما يجعل سفن أوطاننا تسير كما نشتهي .