الأغنيات في السياق المتعلق بالوطن تولد عبر رحمين وغالباً ما يكونا مختلفين من حيث الجينات والأحلام، (رحم السلطة) و(رحم الشعب)، الخارجة من رحم (السلطة) غالباً ما تكون تعبوية تبشيرية تجاه شعار النهضة ورد قوى (الظلم والاستكبار !!) أما الخارجة من رحم (الشعب) فتكون ناقمة على النظام القائم، داعية للثورة، حالمة بوطن أفضل، وتلك الافتراضية دائماً ما توجد في الأوطان المغتصبة من دول أخرى أو أن يكون النظام المفروض من (بنيها) دكتاتورياً شمولياً. والباحث في السفر الغنائي السوداني الحديث كنموذج سيجد أن مساهمة الأغنيات في عملية التحرير من الاحتلال الإنجليزي كانت موجودة وتأخذ عدة طوابع وأنماط، فمنها ما كان يتستر خلف الكلمة الرمز (عازة في هواك) ومنها ما كان يحبذ المباشرة مثل أغنيات العطبرواي (ياغريب يلا لي بلدك) والشاهد يقول إن نفس هذه الأغنيات كان يرددها الشارع في انتفاضاته وغضباته ضد المحتل، وأيضاً ردد عند خروجه ضد الأنظمة المحلية فهي كانت بمثابة الأداءة التحريضية التي توجه الشعب وتطلب منه الثورة ...نعم في ظل الأنظمة الوطنية أيضاً خرجت أغنيات ثورية ولكن ليس بنفس البريق فقد كانت عُرضة للاستقطاب وتجاذبات التيارات السياسية وكانت احتفالية بالثورات (أكتوبر ، أبريل) أكثر من كونها صانعة لها. الأغنيات والثورة ..!! النقاد يقولون إن الأغنيات هي وسائط إعلامية دعائية، كما تقوم بأدوار التحفيز على التغيير تقوم ايضاً بأدوار تخدير الجماهير، هي مثل القنوات الفضائية كالإذاعات كالصحف يمكن أن تقوم بنفس الأدوار إذا وضعت في المسار الصحيح بل وتتميز بمساحات قبول وتأثير أسرع واصفين بأن الأغنيات تستطيع أن تصنع ثورة متى ما توفرت أسبابها الموضوعية. ويرى آخرون أن الثورة تصنعها الشعوب ودور الفنانين كأحد أطيافها هو التأجيج والحث عليها وتفسير أحلامها وتطلعاتها وليس الخروج في الشوارع والهتاف. هبة ديسمبر والفنون ...!! الحراك الشعبي المتصاعد هذه الأيام في السودان يقابله مد موازٍ في الأعمال الأدبية الثورية التي كما تحرض على الخروج توثق للمرحلة، وأغلبية أعمال المقاومة هذه يتم تداولها على وسائط التواصل الاجتماعي بصورة كبيرة وتأتي معانيه دائماً متسقة مع شعارات الشارع وأحلام المحتجين ومطالبهم، ولعل الأغنيات والفنون عموماً هي وسائل فاعلة في الثورة بكل أطوارها (التحريض، الحماس، الثبات، الأهداف، الأحلام، الاحتفاء والتوثيق بعد نجاحها) متى ما استدعت الظروف وتحرر الفنانين والشعراء من سجون التسبيح بحمد الطغاة، والشاهد أن الحراك السلمي الأخير قد أنتجت أدبه الخاص مثلاً مع بداية الأحداث تداول ناشطون أهزوجة لثلاثة أطفال يسخرون فيها من القوة الأمنية التي تجابه المتظاهرين في الشوارع وتمنعهم من ممارسة حقهم الدستوري في تنظيم المواكب وتسيرها، سخرت كذلك هؤلاء الأطفال من بطش هذه القوات، وجد هذا الفيديو تفاعل كبير جداً حتى أن بعض القنوات الإقليمية احتفت به، تصاعد الأحداث أنتج كذلك أغنيات أخرى أكثر رصانة وتسويق للأفكار والشعارات التي من أجلها خرج الناس مثل الصوت العذب لتلك الفتاة وهي ترنم بنشيد تقول فيه ... نادى الوطن ردوا كل زول رفع يدو ثوار في كل مكان للظالم أتحدوا سلمية.. سليمة ضد الحرامية حرية ... حرية القمع راح عهدو نادى الوطن أسمع في الكرسي ما بتنفع سيب الحكم وأطلع.. ظلمك وصل حدو عمرك كمل فيهو ما عرفت تبنيه ادينا نبنيه ما تعبت من هدو ارتفعت وتيرة الأحداث وسقط شهداء خرج شعراء وفنانون بأغنيات وأعمال أكثر تحدياً وجسدت رفع سقف المطالب للمتظاهرين الذين طالبوا بالتنحي والقصاص مثلاً كانت هنالك أغنية تقول في مطلعها ... أرح مارقه موت وحياة بقت متساوية ما فارقه قدااامك غنا الميلاد وديك شمس الأمل شارقه مسنودين على الحيطة أم زبالة أم طين لا لابسين سوى السترة وشبع حامدين ولا وراثين سوى خالقنا ما خايفينأرح مارقه موت وحياة بقت متساوية ما فارقه كذلك أعادت حركة الاحتجاجات أغنيات قيلت في مناسبات أو ثورات سابقة فكانت أغنيات وردي (يا شعبا لهبك ثوريتك، ويا شعبا تسامى، وأصبح الصبح ...الخ ) وايضا أغنيات محمد الأمين مثل الملحمة وغيرها من الأكتوبريات، لكن تظل أغنية نانسي عجاج التي انتجتها عقب غرق الطلاب بولاية نهر النيل من أكثر الأغنيات تداولاً وتقول في مقاطعها ... لو خوفنا رااااااح وطريقنا مرصوف بالثبات ومشينا للحرية صااااااح لابد أكيد مهما طال الليل ضناهو الفجر جاي وضياهو عيد ونعود عزاز زي ما مضى ونفوسنا تملاها الرضا تشرق شموس الأغنيات هناك فنانون حاولوا الانخراط في الهبة فانتجوا كذلك أعمال وجدت صدى واسعاً مثل أغنية حسين الصادق (سوداني) وأغنية عقد الجلاد (أوعك تخاف) وغيرهم . المعيار الثوري ...!! معيار قياس الأغنيات الثورية والتصنيف على هذا السياق اختلف حوله ولكن هنالك رأياً قريباً لهذا الموضوع للروائي صنع الله إبراهيم يقول فيه (أنا لا أظن أن هناك شيئاً يسمى بالأدب الثوري، فهناك شيئان أدب حقيقي وأدب غير حقيقي والأدب الحقيقي بمعنى أنه ليس أدباً ينبع من أهداف دعائية لحساب السلطة أو أهداف دعائية ضد السلطة، وإنما هو أدب حقيقي يعبر عن حياة الناس والأهداف الطبيعية للإنسان، وهذا الأدب الحقيقي هو بالتأكيد يصب في مصلحة ما هو ضد السلطة. أن تكون أديباً حقيقياً يعني أنك تملك رؤية شاملة للمجتمع وللمستقبل وللتاريخ وهذه الرؤية بالتأكيد يكون فيها نوع من الاعتراض والرفض للواقع في تلك الحدود. إنما أدب ثوري وأدب غير ثوري فهي قصة قد انتهت ولم تعد موجودة منذ الستينيات أو السبعينيات) وفي حواره الأخيرة مع (الجريدة) تحدث حول هذه النقطة قائلاً :( كل أدب يرى هموم الآخر ولا ينسى همه فهو أدب ثوري وكل أدب يستشرف آمال وتطلعات الناس للعيش الكريم ولا ينسى آماله فهو أدب ثوري. والفنان ليس مكانه مع السلطة على الإطلاق؛ لأن السلطة الزمنية دائماً ترى ما عملت، مهما خفَّ وزناً وقل ميزاناً، هو منتهى الإنجاز غاية الإنجاز، والفنان يرى في الإمكان أحسن مما كان. ولذلك أخرج أفلاطون الشعراء والأدباء والفنانين من مدينته الفاضلة (اليوتوبيا)، لأنهم دائماً يرون مدينة أفضل منها لم تأتِ بعد). الثورة وصناعة النجوم ...!! يقول المراقبون كما أن هنالك فنانون يصنعون الثورة هناك فنانون تصنعهم الثورات وأؤلئك يقسمون إلى فئتين أولاً الذين يصعدون مع الأحداث في اللحظات الحاسمة وتصادف أعمالهم هوى الكثيرين لتضامنها مع قضاياهم وأحلامهم وتتحول أغنياتهم حينها إلى هتافات داوية خارجة من حناجر الثائرين، أما الآخرين فهم الذين يأتون لاحقاً ويحاولون توثيق الأحداث والتأكيد على المطالب والأحلام عبر الأعمال الأدبية، ثورة أكتوبر بالتحديد كانت تاريخ ميلاد للنجوم الجديدة خاصة من الفئة الثانية فكل من تغنى لها حيناً ولاحقاً نال شهرة كبيرة لم تطوها تيارات النسيان حتى الآن ولعل من ألمع الأسماء في هذا السياق (الفنان محمد الأمين، الشاعر فضل الله محمد، الشاعر محمد المكي إبراهيم، أم بلينة السنوسي.....الخ) ولكن يظل الأبرز بين تلك القائمة الشاعر هاشم الصديق الذي يمكن أن نقول صنعته ثورة أكتوبر بالكامل فهو الذي استلّ ذكرى الثورة بعد أعوا.. وهو يقدم الملحمة بحنجر الفنان محمد الأمين ويقول عنها هاشم صديق نفسه عبر حوار أجري معه: (إن سر حياة وألق هذا العمل الشعري الغنائي يكمن أولاً في أنني قد عشت أحداث ثورة اكتوبر يوماً بيوم بل لا أبالغ إن قلت ساعة بساعة، وأنا صبي صغير لم أتجاوز (16) سنة، وبذلك انطبعت في عقلي الباطن كل أحداث هذه الثورة بانبهار ومعايشة ودهشة وتلاحم مع صورها المبهرة من شارع إلى شارع ومن ميدان إلى ميدان ومن ساحة إلى ساحة حتى أحداث القصر عندما اندلع الرصاص في صدور المتظاهرين وتساقط الشهداء أمثال عز الدين نصار وحسن عبد الحفيظ، الذي يعلم أن نقاء العقل الباطن وبياضه حفرت أحداث هذه الثورة العظيمة ببصيرة ذلك الصبي صغير السن.. ثم وبعد أربع سنوات ومع أنسام شتاء الذكرى الرابعة لأكتوبر استدعيت أحداث هذه التجربة وكتبتها قصة شعرية كأنها تنقل نفس الصور والأحداث التي عايشتها بصدق هو الذي بث فيها الحياة والألق الذي جعلها تسكن وجدان الشعب السوداني طوال هذه الفترة، واعتقد أن الذي بث الروح في أوصال القصيدة ومنحها المزيد من الحياة والحيوية هو المبدع الموسيقار محمد الأمين). أيضاً لابد من الإشارة إلى نقطة مهمة متعلقة بالفنانين وثورة الجماهير.. فالانتفاضة الشعبية على الحكومات الفاسدة والفاشلة غالباً ما تكون الحد الفاصل في وضوح المواقف واختيار الخانات.. فالفنانون الذين يميلون لجانب الأنظمة الحاكمة دائماً تلحقهم اللعنات وينفر منهم الجمهور (المستنير بالذات) حتى وإن فشلت الثورة؛ لأنه سيصنف ضمن قائمة المخذلين وتلك الفئة إن كتب لها الاستمرار فستكون معزولة ومحصورة تحت سقف التطريب، وكأنهم تكتب على وجوهم لافتة تقول هؤلاء فنانين من أجل التسلية لا يمتلكون أدوات التأثير في الجماهير. أما الذين ينحازون لخيار الجماهير فهم دون شك يكونون مسار حب واحتفاء لكن ايضاً تكون الرقابة عليهم لصيقة ما أن تظهر عليها ملامح أي تغييرات وانتكاسات حتى تطاردهم اتهامات (بيع القضية) . أما الأتعس في عملية الثورة وتفاعل الفنانين معها هم الذين يختارون مناطق ضبابية أو وسطى فإذا فشلت الانتفاضة لم ترضَ عنهم الأنظمة وإذا نجحت لن ترضى عنهم الجماهير، ولعل هنالك أبيات كتبها الشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد في هذا المنحى يقول فيها..... ما جانا عشقك من فراغ لا نحنا غنيناك عبط جرح الوطن ختالنا خط ختالنا قول ما منو نط والليلة يا موت يا حياة وخاتي البيختار الوسط. الجريدة