ما زلت على ذات الحال منذ بدأت متابعة وقائع وتداعيات الهبة الديسمبرية التي أطلق عليها البعض الشتاء السوداني، على وزن الربيع العربي، مع أن السودان لم يعرف شتاءً حقيقياً هذا العام. بعض الوقائع يبعث على الحزن، وأخرى على الغضب، وبعضها يثير الدهشة الممزوجة – أحياناً - بالمتعة، لكأنها تلك التي عناها عمر الطيب الدوش القائل: "أمتّع نفسي بالدهشة"! تدهشني دائما تلك الثقة المفرطة بالنفس التي تعتري كثيراً من أحبابنا في معسكر الهبة من جماعة "أي كوز ندوسو دوس". ذلك الهتاف الذي ملأ به بعض هؤلاء بريد حاسوبي حتى فاض عن آخره، وضاعت هدرا كل محاولاتي لإقناعهم، أو بالأحرى إقناعهن، إذ أنني لاحظت أن معظم الذين يقتحمون بريدي الإلكتروني من المهددين بالويل والثبور وعظام الأمور، والمتوعدين بدوسي دوساً إنما هن من ذوات الثدي، حفظهن الله. أقول تبددت كل محاولاتي لإقناعهن بأنني لا أنتمى لفصيلة الكيزان، فلست كوزا ولا صلة لي بوصايا الشيخ حسن البنا العشر ولم أهتم في حياتي كلها بكتب سيد قطب، ولكن على من تلقي مزاميرك يا داؤود! وقد قال لي أخيرا أحد فقهاء الهبة: إن الكوزنة، مثل الجنسية، نوعان كوزنة بالأصالة وكوزنة بالاكتساب، فمن جاور الكيزان وعمل في حكومتهم فهو كوز، يتم كبسه كبساً في بوتقة الكيزان، ويُداس بالتالي دوساً، ويحشر حشراً في زمرتهم أمام محاكم الثورة، ولذا فأنت والدكتور صفوت صبحي فانوس، المسيحي القبطي، عضو حزب المؤتمر الوطني، كيزان بالاكتساب، يجوز عليكما ما يجوز على الأولين! والحقيقة أنني وجدت شعار "اي كوز ندوسو دوس" متناسقاً إلى حد كبير لولا حرف السين في الكلمة الأخير (دوس) الذي لا يتماشى تماما مع حرف الزاي في كلمة (كوز). ومن سخرية الأقدار أن البحث التاريخي يدلنا على أن أول من استخدم كلمة (دوس) ومشتقاتها في الهتاف ضد الخصوم هم الكيزان أنفسهم، إذ عُرفت جماعات الاتجاه الإسلامي في الجامعات السودانية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بالهتاف الشهير الذي كانت تهدر به في مواجهة خصومها من كادرات الحزب الشيوعي (الجامعة تدوس عملاء الروس). ولعلك تلاحظ هنا – أعزك الله – أن هذا الهتاف الأخير أحسن وقعاً وأفضل سبكاً مقارنةً بالهتاف الآخر، بقرينة توحّد حرفي السين في كلمتي (تدوس) و(الروس). ويُخيل لي والله أعلم أن هتاف "أي كوز ندوسو دوس" الحديث ربما كان منشؤه الرغائب الكامنة عند بعض خصوم الإسلاميين من قبائل اليسار في إكمال حلقة الدواس التي افترع مسيرتها الإسلاميون في النصف الثاني من القرن الماضي، حين هددوا بأن جحافلهم ستدوس اليساريين، من عملاء موسكو، دوسا. كذلك وقفت كثيرا عند التسجيلات والمقاطع الصوتية التي ملأت بر الوسائط التواصلية وبحرها، يدفع بها دعاة الهبة ومناصروها الإسفيريون في البكور والعشيات بلا توقف. وكان آخر ما لفت نظري من هذه التسجيلات مادة قيل إن صاحبها من قيادات الحركة الشعبية شمال (حشش) والله أعلم، فما عاد المرء يميز بين الأشياء ويتعرف على الشخصيات وسط فيضانات المواد الثورية التي أغرقتنا إغراقا. وقد سمعت ذلك المتحدث الثائر ينذر ويحذر من العبارات الخائنة الخائرة التي أخذ يرددها بعض الضعفاء داخل معسكر الهبة من أنه لا مانع من أن يكون للإسلاميين مكان ضمن بقية القوى السياسية عقب نجاح الثورة. وأعلن الرجل بصوت جهير أن تلك أضغاث أحلام وألا مكان للإسلاميين قولاً واحداً تحت مظلة العهد الجديد، حتى أولئك الذين حاولوا أن يلبسوا لبوس المعارضة، وانتخب منهم بالأسماء صديقي الدكتور خالد التجاني، والدكتور عبد الوهاب الأفندي والدكتور التجاني عبد القادر. ثم أضاف: (لا مكان لهؤلاء في الحياة العامة بعد الآن ولكن يمكن لأي منهم أن يتخذ لنفسه طبلية يتعيش منها إذا شاء)! قلت في نفسي: طبلية طبلية، وأنا مالي؟! كل واحد ياكل نارو! أنا لست معنياً بأمر الطبليات أو الطبالي (أياً كان الجمع الصحيح لغويا) طالما أنني لست كوزاً. ولكن من الذي يقنع الديك؟! عموما لا أعتقد أن الحبيبين الدكتور عبد الوهاب الأفندي والدكتور التجاني عبد القادر سيضطران إلى ركوب مركب الطبلية الصعب، فكلاهما يعيشان حياة رغدة، ملؤها الريال والدولار، خارج السودان. ولكنني أشعر بشيء من الانزعاج بشأن أخي وصديقي الدكتور خالد التجاني، كونه يقيم داخل السودان، ولا يمتلك من سبل كسب العيش سوى صحيفة أسبوعية اقتصادية متخصصة، ومن المؤكد أن قوى الثورة ستقوم بمصادرتها حال توليها مقاليد الأمور. وأقول للدكتور خالد التجاني: لا تبتئس يا صديق. ثق أنني سأقف بجانبك. ومهما يكن مستوى الطبلية التي حكم عليك الثوار بالجلوس خلفها فسأحرص على دعمك ومؤازرتك شخصيا، وسأحث كذلك جيراني ومعارفي بالمثل على المرور اليومي والشراء من طبليتك. المهم أن تراعي وجه الله، وأن يكون البيع بالأسعار القانونية!