قرار وزير العدل مولانا محمد بشارة دوسة بإحالة بلاغات التعدي على المال العام للمحاكمة بمجرد توفر البيِّنة المبدئية وعدم شطبها في مرحلة التحري الأولى، قرار صائب وحازم، وسيكون له أثر فعَّال في كبح الاعتداء على المال العام ومنع الاختلاسات والاحتيال، وكل جرائم المال العام التي زادت بمعدلات كبيرة خلال السنوات الماضية، وفقاً للتقارير السنوية لديوان المراجع العام. وظلت الشكوك باقية وعالقة منذ فترة طويلة، حول قدرة الحكومة على حسم ظاهرة التعدي على المال العام، وفُقدت الثقة تماماً في أي إجراء حكومي من شأنه تحقيق العدالة في حق المعتدين والمتلاعبين في المال العام والمتهمين في جرائم من هذا النوع. واكتنزت تقارير المراجع العام خلال السنوات الماضية، بمبالغ مليارية مهولة هي حجم التعدي على مال الدولة والشعب المنهوب عياناً بياناً، أو عبر التحايل والاختلاسات والتزوير وسوء استخدام السلطة والمحاباة والمحسوبية والرشاوى وغيرها من الجرائم التي تحدث دون أن يجد مقترفوها العقاب الرادع، وتسبب ذلك التراخي وعدم المحاسبة والمحاكمة في ضياع المال العام، وكثرت حالات الاعتداء عليه حتى لم يعد هناك من يأبه لما تقوله الحكومة عن محاربة الفساد في مؤسسات الدولة وقطع دابر المفسدين. وفي إطار تطبيق مبدأ سيادة القانون، نرجو ألا يتم التحايل على قرارات وزير العدل، وتبدأ عمليات التسويف والتغطية والوساطات ومحو الأثر و«الدغمسة» ويذهب هذا القرار المهم أدراج الرياح. ونحن نعلم أن جهات كثيرة ستسعى لعدم وصول بلاغات الاعتداء على المال العام لساحات القضاء والمحاكم خاصة حالات التعدي الكبيرة والقضايا «المتلتلة»، وبالطبع هناك مافيا تتشابك مصالحها وتترابط جرائمها وتتداخل منافعها، ستحاول بكل الوسائل أن تجهض أي تحرك قانوني جاد ضدها أو تعمل على إبطاء الإجراءات المزمع اتخاذها للحد من ظاهرة الاعتداء على المال العام وتطبيق قرار وزير العدل وتفعيل إجراءاته الجنائية والمدنية لحراسة وصون وحماية مالنا العام من «النهب المصلح» المدعوم بخبرة بلوائح وقوانين الخدمة العامة وقواعد نظمها المحاسبية، فالكثير من المعتدين على المال العام ومرتكبي جرائمه مدججون بمعرفة لا تضاهى بالقوانين المالية وكيفية توظيف البرامج والنظم في المراجعة والحسابات في نهب المال العام، وهم شبكات عتيدة ومعقدة تحتاج لاستعداد وتصميم كبير في محاربتها. ومثل هذه القرارات والجدية التي صدرت بها وتصميم السيد الوزير على إنفاذها وتطبيقها، تجعل منها بداية وبادئة جيدة للدولة، لتصحيح الكثير من الأخطاء وتفعيل العديد من القوانين والتشريعات لمحاربة الفساد وقص أجنحته وقلع أنيابه وتقليم أظافره الحادة المسمومة. فقرار وزير العدل وحده لا يكفي، ولا بد من أن تترافق معه تدابير وإجراءات أخرى على أكثر من صعيد، خاصة الأجهزة الحكومية المختلفة التي تتضافر جهودها مع عمل النيابات والمحاكم، ويحتاج الوزير نفسه لجهد إضافي وخرافي في نفس الوقت لمتابعة قراره وكيفية تطبيقه، وأن يسهر على متابعة كل صغيرة وكبيرة حتى يبلغ القرار غاياته ومبتغاه، خاصة أن القرار تضمن رفع إحصائية شهرية بالبلاغات المدونة وموقف الإجراء فيها، وتحميل كل مستشار قانوني بجهاز من أجهزة الدولة المسؤولية كاملة في التفريط أو التخلف عن متابعة البلاغات المتعلقة بالمال العام. كل الذي نرجوه ألا تتدخل أية اعتبارات أخرى في تعطيل القانون ومنع تطبيق مثل هذه القرارات الحاسمة القوية التي تعيد ثقة الناس في الحكم، ولطالما كانت اعتبارات المداراة والتستر والقرابة والسياسة وطبيعة الشخصية السودانية الأقرب للتسوية والتغاضي، سبباً في إبطال القانون وانتهاك العدالة والانتقاص منها، فهل سينجح دوسة في أن يدوس الفساد بقدمين واثقتين؟!