سؤال من بياخته واستفزازيته يجعل الشياطين تتنطط أمامي وترقص، يسأله العيال كل على حدة، وكأنما أنا شيف عالمي في فندق عشرة نجوم، فأجيب بغيظ : لمن تجوا تقعدو للغداء، حتشوفوه شنو .، نادو أبوكم، فيناديه أحدهم لأسمعه هو التاني يسأل من بعيد : هو الغدا شنو؟، فأسأل ابنتي المحايدة، والتى نادرًا ما تجلس معنا لتناول الغداء لولعها باللغاويس: أنتى الناس دى حتاكل طوااااالى كده؟ مش أحسن الناس دى تصوم كم يوم كدا فى الأسبوع؟ فترد : والله ديل كان صاموا حيتشهو ليك جنس تشهى أحسن ليك كدا. صينية الغداء، أوشكت على الانقراض لأسباب كثيرة، أولها تفاوت وقت وصول أفراد الأسرة للبيت، ومنها أيضًا زهد معظم عيال اليومين ديل فى طبخنا التقليدي، مما تضطر معه الأم لطبخ ما يحبونه، فيأتى كل واحد ويغرف لنفسه ويذهب، لتجلس الأم مع «بسلامتو» على صينية الغداء التقليدية لأن الزوج لا يعترف باللغاويس التى تصنعها لأبنائها، وهذا يمثل جهدًا مضاعفًا على الأم وكمان «محقة وسحقة» فهذه الوجبات التى نعتبرها لغاويس مكلفة، والسودانيون من جيل الآباء لا يحبون التغيير، ولا يستسيغون الأكلات الجديدة، ولعلي قصصتُ لكم خبر صديقتي التي استبسلت ذات عزومة لأصدقاء زوجها في إخراج عدة أطباق جديدة كلفتها وقتًا وجهدًا عظيمًا، ولكنها تفاجأت بعودة الأطباق الجديدة كما هي لم يمسسها أحد بل قرعّها زوجها : الحاجات اللقاديم لقاديم دي شنو؟ ما لقيتي الا تتفلقصي لينا يوم الضيفان دا ؟، فناولته الشاي قائلة : بالله أمسك ....خليكم في كسرتكم وقراصتكم وعصيدتكم ولحمكم المحمر في الدوكة دا ، ودّي الشاي قبل ما يبرد! اذا تصادف وجلس الأولاد مع والدهم في صينية واحدة، لا يأكلون من سكات، بل تجد التعليقات تترى من أفواههم... الملح قليل، الزيت كتير، ما ظبطيها الملوخية المرة دي، الرز ملبك، وحين تعجبهم الطبخة في مرة أخرى يلتهمونها ويستكترون عليك كلمة إطراء واحدة، ولما تسأليهم : أكلة حلوة، عجبتكم مش؟ يعلق الأب وهو ينظر لأبنائه نظرة ذات معنى : والله أظننا جعانين مش يا أولاد؟، فترددين في سرك : استني لي والله إلا أغشك بالملاح البايت الما بتدورو دا!! كان وقت الغداء زمان حوالى الساعة الثانية والنصف موعد رجوع الآباء من العمل، فيتحلق الجميع حول صينية الغداء، لا يعيبون الطعام بل يلف الطفل بعمر الثالثة لقمة الكسرة بالملاح بمهارة شديدة، وهي فرصة للتآنس ومعرفة أحوال بعضهم، كما يتعلم الأطفال آداب الأكل وخدمة الضيوف، وفي الأكل مع الجماعة بركة، وكانت الأم بالقليل تخرج صينية تبهج الناظرين وربما تستعين بجارتها عند مداهمة ضيوف باستلاف صحن ملاح، وعادي جدًا أن تتبادل مع جارتها أطباق الطعام، وشحدة التوم والملح والكبريتة والليمونة والحاجات البتخذلك وانت في المطبخ نصة نهار، الآن تكوركى لجارتك بالحيطة لمن الله يغفر ليك ولا حياة لمن تنادي بسبب تقفيلة البيوت بتاعة «حاكو حاكو دي»، خرجت قبل أيام لأستفسر من الجيران عن انقطاع الماء، وقفت على باب أحد الجيران، ودقيت «لمن دقيت» لم يأتنى أحد، اتجهت لباب جيران تانين، وعادة ما أقف على جانب، فشعرت بأحدهم فتح الباب وقفله بسرعة دون أن يعرف هل الواقف في الباب إنسان وللا حمار كارو، بمؤاخذة، وللا جنيّة، فتحيرت، فخرجت عاملة منزلية من جيران آخرين فسألتها، فرددت بعربية مكسرة : موية ما كويس ... تراب، وابتسمت في وجهي، والله بارك الله فيك، ربما لم يسمعني جيراني ذلك اليوم، ولكن في العموم انشغل كل إنسان بأحواله، وقصروا تجاه بعضهم، رغم أن تحية جارك ومد حبال التواصل لا تأخذ من وقتك شيئًا، وإذا لم نقم نحن بذلك ليحذو أولادنا حذونا فسيأتي وقت قريب، لا يلقي فيه الواحد السلام على جاره ولا يستعين به ولا يعينه وكل ذلك بحجة الوقت.