في تقديري أن رئيس الجمهورية كان موفقاً في حسمه لتلك «المعركة» التي أثارها وزير الإعلام المستقيل عبد الله علي مسار وهي معركة أحسب أنها كانت في غير معترك وجاءت في توقيت سيء جداً ومن جهة تُعتبر أو يُفترض أن لديها معركة أهم وأشرف من هذه المعركة الجانبية المفتعَلة، كان ينبغي لوزارة الإعلام ممثلة في الوزير المستقيل أن تكون رأس الرمح في قيادة معركة السودان الوطنية ضد ما يواجهه الوطن في هذه المرحلة الحساسة في تاريخه. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم الوزارة بمهامها تلك وبدورها المرجو منها في هذا التوقيت وهي ممزقة داخلياً بصراع وخلافات بين رموزها وأركانها الأساسية وصلت إلى حد التراشق و«المطاعنة» على صفحات الصحف حتي طفق الناس يقولون «الناس في شنو وناس وزارة الإعلام في شنو»، وكانت كل المؤشرات والتوقعات تشير إلى أن الصراع كان في طريقه إلى التصعيد حيث إن يومياته وأحداثه كانت تأخذ شكلاً تصاعدياً يتسم بالحدة وطابعه التحدي من هنا وهناك حتى ساد اعتقاد على نطاق واسع لدى الرأي العام أن خلفيات الصراع ربما تحركها دوافع ودواعٍ ذات طابع شخصي. في تقديري أن أي وزير له الحق في تقديم استقالته متى ما قدر أن استمراره في منصبه لا يمكِّنه في القيام بمهامه على الوجه المطلوب منه وفق الدستور والقوانين المنظمة لعمله والتي تحدد حقوقه وواجباته بصفته هذه. ولكن ما أقدم عليه الوزير مسار في تقديري كان فعلاً غير موفق بكل المقاييس، بل قد تجد فيه غيابًا للياقة وحسن التعاطي مع قرارات رأس الدولة. فقد قال الوزير المستقيل حسبما أوردته هذه الصحيفة أمس نقلاً عنه: «أنا عند موقفي، إما العمل وزيراً للإعلام بصلاحيات كاملة أو قبول استقالتي»، وهذا قول أقل ما يوصف به أنه ينم عن جهل بصلاحيات رئيس الجمهورية الواردة في الدستور وجهل كذلك بالأحكام الخاصة بحدود صلاحيات الوزير الاتحادي ونطاقها الواردة في الدستور، كما أنه بهذا القول وبخطوته في الاستقالة يكون قد وقع في نفس ما اعتبره خطأً من قبل مدير وكالة السودان للأنباء، فاستقالة الوزير هي في وجهها الآخر تعتبر رفضاً مبطناً لقرار الرئيس والوزير مسار مرؤوس للرئيس مثلما أن جادين كان مرؤوساً للوزير. فالدستور الانتقالي لسنة 2005م والذي ما يزال سارياً حتى الآن ينص في المادة «58» «1» على أن «رئيس الجمهورية هو رأس الدولة والحكومة ويمثل إرادة الشعب وسلطان الدولة وله في ذلك ممارسة الاختصاصات التي يمنحها هذا الدستور واتفاقية السلام الشامل» والفقرة «ب» من نفس المادة والمتعلقة بمهام رئيس الجمهورية تقول إنه «يشرف على المؤسسات الدستورية التنفيذية ويقدم نموذجاً للقيادة في الحياة العامة». وفيما يتعلق باختصاصات الوزير القومي تنص المادة «73» «1» على أن «الوزير القومي هو المسؤول الأول في وزارته وتعلو قراراته فيها على أي قرارات أخرى ومع ذلك فإنه يجوز لمجلس الوزراء القومي مراجعة تلك القرارات ويجوز لرئيس الجمهورية تعليق أي قرار يصدره وزير قومي لحين مراجعته». أما المادة «70» «3» فتقول «تسود قرارات مجلس الوزراء القومي علي جميع القرارات التنفيذية الأخرى». والمادة «74» «3» في الدستور تنص على أن «الوزير القومي ملزم بقرارات مجلس الوزراء القومي». فإذا كان الوزير المستقيل مسار على علم وإدراك لهذه النصوص الدستورية آنفة الذكر فلماذا يرى أن صلاحياته قد انتقصت بقرار الرئيس الذي قضى بإلغاء قراره القاضي بإيقاف مدير سونا؟ هل يرى الوزير المستقيل أن رئيس الجمهورية قد تجنّى عليه بغير وجه حق بهذا القرار؟ ألم يتم تعيين الوزير في منصبه وفقاً لنصوص نفس هذا الدستور الذي اتخذه قرار الرئيس هذا مرجعية له واستند إليه في قرار إعادة جادين؟. لو كان الوزير المستقيل قدم استقالته على خلفية تقصير في واجباته أو خطأ في ممارسته لمهامه بصفته هذه لوجد التقدير والاحترام من الجميع ولأصبح رقماً ضمن القلائل ممن يسلكون هذا المسلك الكريم، إذ أن ذلك يعني الأمانة مع النفس والأمانة مع الشعب الذي يمثله وفوق هذا وذاك كله الأمانة مع الله. ولكن لأن ذلك لم يحدث فلا أعتقد أن استقالته سينظر لها بذات تلك النظرة ولا أعتقد أنه سيجد من يتعاطف معه، خاصة في هذا الظرف التاريخي الدقيق الذي تمر به البلاد بل سينظر إليها على أنها محاولة للانتصار للنفس و«الكرامة» الشخصية وهي أمور لا تتسق وظروف المرحلة التي تتطلب التماسك والوحدة لا التمزق والفتنة وإدارة المعارك الشخصية الجانبية خاصة من جهة تقع في موضع اللسان من جسد الوطن فلا يستقيم عقلاً ولا منطقاً أن ينشطر هذا اللسان فتتحدث البلاد بلسان مشطور لا يكاد يبين في الوقت الذي تحتاج فيه إلى لسان مبين فصيح قوي لا يكل ولا يفتر وهو يدافع وينافح عن البلد، وفي وقت صارت فيه الكلمة سلاحاً فعالاً يتقدم كل الأسلحة الأخرى، فالحرب التي يقودها ضدنا أعداؤنا هي حرب تتخذ من الإعلام سلاحاً ماضياً تحاول به كسب المعركة ضدنا، ولقد قال سلفا كير عند إعلان السودان استعادته لهجليج «فليعرضوا صوراً لذلك إن كانوا صادقين»!!، ولولا الرد العملي لهذا التحدي من سلفا كير لكان الشك ساور الجميع في الداخل والخارج حول هذا النصر المؤزر. الظرف دقيق والمرحلة لا تحتمل أية حماقات أو مغاضبات، والوطن فوق الجميع وفوق الحسابات الشخصية للبعض، ومعركة الوطن فوق أية معارك شخصية صغيرة وفوق أية «سباقات» خاصة وحين يدعو داعي الوطن إلى الدفاع عنه فلا وقت حينئذٍ تضيّعه الدولة في استرضاء البعض و «تحنيسهم» مهما كبر شأنهم ومهما عظم مقدارهم فالوطن أكبر شأناً منهم وأعظم مقداراً.