ثم جاءت الفتوى.. وكانت في ص9 من الإصدارة.. وجاء في التقديم لها ما يلي: وبعد الاطلاع على القوانين السودانية المنظمة للشأن المالي والاقتصادي وانطلاقاً من أن دولة السودان قد التزمت بأحكام الشريعة الإسلامية.. ومنها الالتزام باجتناب الربا في جميع الأنشطة والتعاملات المالية والاقتصادية وتجريمه في القوانين. ونظرًا لما يواجه السودان من التحديات الداخلية والخارجية من حروب وحصار واستحقاقات اتفاقيات السلام مما أثر سلبًا على موارد السودان المالية ومشروعاته التنموية وبناه التحتية. ونظرًا للحاجة إلى الموارد المالية لمشروعات الدولة واحتياجاتها الأساسية وعدم كفاية تمويلها من الداخل وأغلب مصادر التمويل الخارجي لا تتم إلا بالفائدة. وبعد النظر والدراسة والمناقشة انتهى الموقعون على هذه الفتوى إلى ما يأتي: وقبل الدخول في «ما يأتي» حسب سياق الفتوى في مقدمتها ننظر فنرى الفتوى قد قدمت لنفسها بذكر القوانين السودانية والتزام الدولة بالشريعة الإسلامية.. وأغرب من ذلك كله فإن الفتوى قدمت في حيثياتها بالتزام الدولة باجتناب الربا في جميع الأنشطة والتعاملات المالية والاقتصادية ولا أدري كيف يكون ذلك مقدمة لتحليل الربا في أية صورة من صوره. ولكن الورقة أو الندوة تنثني للاعتذار عن اجتهادها بالتحديات الداخلية والخارجية واستحقاقات اتفاقية السلام وتأثيرها السالب على موارد السودان المالية.. الهيئة لا تقدم فقهًا ولا دليلاً شرعياً واحداً بل هي لا توضح ولا تحرر المعن« الذي ترمي إليه من قولها التحديات وحروب وحصار.. وما هي استحقاقات اتفاقية السلام التي توجب علينا أن نأكل الربا حتى نفي بالتزاماتنا حيالها؟؟ ولأول مرة أسمع أن التأثير السالب على الموارد يعتبر دليلاً على إطلاقه لإباحة الربا!! إن الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه الهيئة العليا للرقابة الشرعية هو أنها اعتمدت في هذه الفتوى على النظر السياسي وحده ولم تعتمد على النظر الفقهي الدقيق، فالفتوى لم تقف وقفة متأنية مع مفهوم الضرورة ولم تقف عند القدر من الضرورة الذي يؤدي إلى إباحة ما هو محظور. فمثلاً إن الجوع يدخل في دائرة الضرورة.. ولو قلنا مثلاً إن الجوع يبيح السرقة.. كما في عام الرمادة.. فإننا قطعًا لا نقول إن الجوع يبيح القتل.. بل نحن لا نقول إن الجوع يبيح السرقة على إطلاقها في عام الرمادة.. فلو تبين أن سارقًا في عام الرمادة كان عنده الكفاية التي تعصمه من الجوع.. فإن سرقته تكون سرقة حدية وإن كانت في عام الرمادة.. إن الفتوى تقرر في هذا أن الربا من الكبائر الموبقات وتورد الشواهد من القرآن الكريم والسنة المطهرة على ذلك.. ولكنها تنثني بعد قولها ذلك بأسطر قلائل لتقرر. إن الدولة إذا وقعت في ضرورة أو حاجة عامة تنزل منزلة الضرورة فإنه يجوز لها الاقتراض الخارجي بالفائدة بالشروط الآتية:قبل إيراد الشروط يلزمنا فهم الضرورات التي يمكن أن تقع فيها الدولة لأن الدول تختلف عن الفرد.. ما هي الضرورة التي تلجئ الدولة إلى الربا؟ إن الحرمات المقررة في الدين خمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وهي تخص الأفراد وغني عن الشرح أن الدين والمال يخرجان من هذه المجموعة أولاً لأن الدين لا يقع عليه تهديد يلجئنا إلى الربا لأن الله يقول سبحانه وتعالى «إلا من أضطر وقلبه مطمئن بالإيمان.. ولكن من شرح بالكفر صدراً» أما المال فإن ضياعه أهون من ضياع الدين.. والربا ضياع للدين هذا كله في الأفراد.. بقي الإتلاف الحقيقي والهلاك الذي يصيب النفس والعقل والعرض «أو الولد» ويدخل في دائرة النفس.. فأين هو التصور الصحيح للوضع الذي يضطرك كفرد للاقتراض بالربا للحفاظ على نفسك وولدك وعقلك؟ إن الإتلاف الذي يبيح المحظور هو الإتلاف الحقيقي لا إن الاتلاف المتوهم.. إن الجوع والفقر لا يبيحان الربا.. إن ربط الرخصة التي تدعو إليها الهيئة العليا للرقابة الشرعية بضرورات الدولة واحتياجاتها إنما يعني ربطها بالاستثمار والتنمية وهذه لا تمثل ضرورات متحققة ولكنها تمثل ضرورات متوهَّمة.. لأن الدولة لا تقترض بالربا لتنقذ رعاياها من الموت الحقيقي.. ولكنها تقترض من أجل التنمية والاستثمار .. ومن أجل الرفاهية. إن الدولة لا تقترض بالربا من الذين يتوجب عليها دعوتهم إلى الإسلام.. كما أنه لا يجوز أن يكون طرفا القرض الربوي مسلمان.. فلا مجال للفتوى ها هنا لأنه لو جاز للمقترض لم يجُز ذلك للمقرض.. إن الحديث عن تحليل الربا ولو بصفة مؤقتة للدولة المسلمة يقفز فوق حقائق وأرقام ووقائع لا يمكن تجاهلها أو إغفالها أو التغافل عنها.. إن الدولة المسلمة المعنية بالفتوى الآن ينقصها الكثير لتستحق صفة الدولة المسلمة وهذا يدركه ويعرفه الكثيرون من أعضاء الندوة من داخل السودان ومن خارجه.. إن اقتصاد الدولة المعنية بالفتوى ليس اقتصاداً إسلامياً.. بل هو اقتصاد مرقع ومختل.. وإن الخلل أصاب أول ما أصاب الجانب التعبدي في هذا الاقتصاد.. وهو شعيرة الزكاة. إن الاقتصاد الذي عجز عن أن يتحرر من الجبايات والمكوس والذي يحدد رموزه مدلول القول السائد على الألسن «إن في المال حقاً سوى الزكاة» فهم يجعلون هذا الحق هو الضرائب.. إن هذا الاقتصاد الذي لا يقر حرية المال وحرية التملك لا يستحق أن تُعقد له ندوة لتجيز له ارتكاب إحدى كبريات المحرمات على الإطلاق وإحدى السبع الموبقات.