«قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزُّ من تشاء وتذلُّ من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير». إنه قول ربنا جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه، هو مالك الملك وحده ولا أحد غيره، فما حدث في مصر بالأمس من فوز مرشح الإخوان المسلمين هو تطبيق عملي وواقعي يصدق قول ربنا عز وجل في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كنت أحسب أن حدث الإطاحة بالرئيس المصري السابق على النحو الذي رأيناه وتابعنا وقائعه هو الحدث الأكبر على الإطلاق في تاريخ مصر الحديث، ولكن جاء فوز مرشح الأخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي بانتخابات الرئاسة المصرية «جاباً» لحدث الإطاحة بمبارك ماحياً له، فأصبح فوز مرسي هو الحدث الأكبر بلا منازع في تاريخ مصر أم الدنيا. وكانت اللحظات التي سبقت الإعلان عن النتيجة مليئة بالتوتر والترقب والانتظار لكل من تابع مجريات أحداث الانتخابات الرئاسية المصرية وما صاحبها من تطورات متلاحقة كانت كلها تشير إلى أن شيئاً ما يجري الإعداد له لتفادي فوز المرشح مرسي. وظهيرة الإعلان عن الفائز برئاسة مصر تسمّرت أمام الشاشة البلورية وقد أخذ مني التوتر كل مأخذ، فالقلب والوجدان والفكر كل أولئك كان مع مرسي، فكان شبح فوز خصمه ومنافسه الوحيد أحمد شفيق عبر «مؤامرة» يتم إخراجها بالتواطؤ مع قوى دولية وإقليمية شبح يحوم طيفه المزعج في المخيلة ويخيم على الخاطر ويسيطر على التفكير. ولكن حينما أعلن المستشار فاروق سلطان رئيس لجنة الانتخابات الرئاسية فوز محمد مرسي نزل علينا ذلك برداً وسلاماً فكان التكبير هو سيد الموقف واللحظة، وكيف لا، وقد عشنا وعايشنا وشهدنا جانباً كبيراً من معاناة الإخوان المسلمين في مصر والتيار الإسلامي عموماً عندما شددنا الرحال طلباً للعلم في مصر منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. فقد كان التيار الإسلامي عموماً و«الإخوانجية» كما كان يكنيهم زبانية نظام مبارك بصفة خاصة يعانون أشد ما تكون المعاناة ويسامون سوء العذاب، وكانت السجون المصرية تكتظ بهم شباباً وكهولاً وشيوخاً ونساءاً ورجالاً. كم كانت تصدمنا وتثير فينا حمية الإخوة في الإسلام ونحن نرى شباباً منهم وزملاء دراسة لنا وهم رهن الاعتقال والحبس لا نراهم إلا حين يؤتي بهم في مواسم الامتحانات تحت الحراسة المشددة من قبل أفراد جهاز أمن الدولة، يؤتي بهم وقد نحلت أجسادهم وهزلت بسبب التعذيب الجسدي والنفسي الذي كان يمارس عليهم غدواً وعشياً ليجلسوا لأداء الامتحانات وهم مقرّنين بالأصفاد وتغشى وجوههم مسحة من حزن وأسف وحسرة على إصرار السلطة على إهانتهم وتخويف الآخرين بهم وبمصيرهم.. ترق لهم قلوب كل من يراهم في تلك الحالة المزرية والمهينة وكنا ندعو لهم بالخلاص في سرنا ونلعن نظام مبارك وندعو عليه. كان الانتماء ولو عاطفياً إلى الإخوان في ذلك الوقت جريرة كبرى وجريمة يعاقب عليها أشد العقاب، كان التردد على المساجد لأداء الصلوات الخمس يكفي لكي «يوصم» من يفعل ذلك بأنه «إرهابي» وهو الاسم الحركي الذي كان يطلق على كل من تهفو نفسه وتتوق إلى تنزيل الإسلام ليكون منهجاً للحكم وطريقة لسياسة الناس والقضاء فيهم بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله. ولم نكن ويومها كنا في عنفوان الانفعال بالفكرة لنقدر على تجاهل إخوتنا ونحن نراهم فيما هم فيه من بلاء وشدة وكرب رغم أن وضعنا القانوني باعتبارنا أجانب ما كان يخوِّل لنا التوغل إلى الأعماق، ولكن رغم ذلك كنا نجد فسحة من سوانح كانت تقيّض لنا لمواساتهم ومؤازرتهم فنشعر بأننا قد قمنا ببعض واجبنا وببعض الحق لهم علينا. وأصابنا ما أصابنا في ذلك من كيد السلطة التي كانت يدها طويلة وممتدة و«لاحقة» في كل المؤسسات الأكاديمية. في تلك الأيام كان إخوان مصر في نظرنا يحرثون في البحر، فالنظام قابض وبوليسي ولا شغل له غير مطاردتهم والتنكيل بهم حتى كاد ينجح في جعلهم منبوذين داخل المجتمع المصري، فقد كانت تلصق بهم التهم بالتخريب جزافاً وهم منها براء، إمعاناً في تشويه صورتهم في نظر الشعب المصري، ولم نكن نتخيل أن يكون لهم مستقبل أو أن تقوم لهم قائمة ولكن الله غالب علي أمره. فقد منّ الله عليهم بالأمس بعد كل تلك العقود من الاستضعاف الذي سامهم به نظام مبارك ومن قبله السادات وعبد الناصر، منّ الله عليهم بالنصر والتمكين وأورثهم حكم مصر برضا وتأييد من أغلبية الشعب المصري وبالشرعية الدستورية وأبدلهم أمناً من بعد خوف وأهلك عدوهم وأذله وخرجوا أعزة من غياهب السجون إلى فضاء الحرية وإلى سدة الحكم، بينما خرج أعداؤهم من نعيم السلطة والجاه أذلة تلاحقهم لعنات مظاليمهم إلى غياهب السجون لم تغنِ عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأصبح حسني مبارك الذي أذّلهم طريح الفراش بين الموت والحياة محكوماً عليه بالسجن المؤبد وبطانته تفرقت عنه أيدي سبأ ولعن بعضهم بعضاً، منهم من حُكم عليه ومنهم من ينتظر وورث مرسي حسني.. فسبحان الله !!.. إنها آية من آيات الله وسنة من سننه في خلقه وعباده.