تعتبر قصة عالم الفيزياء الأمريكي روبرت أوبنهايمر من أغرب القصص في تاريخ العالم والسياسة، فقد بدأ العالم يسمع اسمه لأول مرة في أغسطس سنة 1945م عندما ألقيت القنبلة الذرية على هيروشيما، وسمي آنذاك أبو القنبلة الذرية اعترافاً من الولاياتالمتحدة بالدور الرئيس الذي لعبه في قيادة مجموعة العلماء والمهندسين الذين صمموا أول قنبلة ذرية في معامل لوسي الأموس تحت اسم (مشروع ماناهتن) ثم انتجوها بعد ذلك. ثم عاد اسم روبرت أوبنهايمر إلى الظهور مرة أخرى في الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والتلفزيون في ديسمبر1953م عندما بدأت محاكمته أمام إحدى لجان مجلس الشيوخ الأمريكي متهماً بأنه عارض وأعاق إنتاج القنبلة الهيدروجنية، وأنه يمثل خطورة على أمن الولاياتالمتحدة باعتبار أنه كان قبل الحرب عضواً في منظمات جماهيرية يسارية عديدة، وإن كان قد ثبت أنه لم يكن في يوم من الأيام عضواً في الحزب الشيوعي الأمريكي. ولعل من طرائف هذه المحاكمة أنه قد ثبت خلالها أن أوبنهايمر لم ينكر في يوم من الأيام انتماءه لهذه المنظمات اليسارية، كما ثبت أن هذا الانتماء كان معروفاً لدى جنرال ليزلي جروفز المسؤول العسكري عن القنبلة الذرية عندما اختار مستشاره العلمي للمشروع عام 1942م، والتفسير الوحيد لهذه المفارقة إنما يكمن في المناخ السياسي الدولي الذي اختلف عام 1942م عنه عام 1953م، ففي سنة 1942م كانت الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي حليفتين في الحرب ضد ألمانيا النازية وحلفائها ، بينما شهد عام 1953م وصول الحرب الباردة بين الدولتين الكبيرتين إلى الذروة في هذه الفترة كان التنافس الذري بين العملاقين على أشده، وكان مكارثي هو صاحب الكلمة العليا في مجلس الشيوخ الأمريكي، وكانت هيستريا الأمن الأمريكي في عنفوانها! وهكذا تمت محاكمة أوبنهايمر بأثر رجعي! ومع أن بعض الصحف الأمريكية قد أدعت آنذاك أن حياة أوبنهايمر غامضة. إلا أن الحقيقة غير ذلك، لقد حصل أوبنهايمر على درجته الجامعية الأولى في الفيزياء عام 1925م ثم التحق بجامعات أوروبية عديدة لمدى أربع سنوات حيث تخصص في الفيزياء النظرية، وفي عام 1939م عين عضواً في هيئة التدريس بجامعة كاليفورنيا بيركلي فأظهر امتيازاً على أقرانه، وكان أوبنهايمر فوق ذلك مشهوراً بثقافته العامة الواسعة، فهو أحد المتخصصين في أديب ايطاليا الكبير دانتي وهو يتقن لغات عدة من بينها السنسكريتية، وهو من هواة تسلق الجبال، وهو أولاً وأخيراً عالم فيزياء دولي مرموق في أبحاثه ودراساته. ومثل علماء أمريكيين وأوربيين كثيرين عرف أوبنهايمر طريقه إلى العمل في إنتاج القنبلة الذرية من خلال جو الفزع العام الذي سيطر على علماء عديدين غداة نشوب الحرب العالمية، لئلا تستطيع ألمانيا النازية أن تسبق الحلفاء في إنتاج السلاح الرهيب وفي استخدامه. في مواجهة المشكلة وقد عبر اينشتاين عام 1939 عن هذا الفزع العام في الرسالة التي أرسلها إلى الرئيس الأمريكي روزفلت عن طريق مستشاره الاقتصادي ساكس الذي كان صديقاً حميماً لاينشتاين. وكان ثمة دلائل عديدة على أن الألمان يعملون في هذا المجال بسرية كاملة .. ومن هذه الدلائل أن ألمانيا قد استولت على ألوف الأطنان من اليورانيوم عندما اجتاحت بلجيكا، وأنها تفاوضت مع حكومة تشيكوسلوفاكيا لأخذ اليورانيوم والراديوم الموجودين بمناجمها، وعندما اجتاحت ألمانيا النرويج وضعت يدها على أول مصنع في العالم لإنتاج الماء الثقيل الذي يمكن باستخدامه بناء مفاعل ذري بسهولة فائقة. وعندما بدأت ألمانيا بناء الصواريخ V-2 زاد قلق العلماء في الغرب، وكان منطقهم ببساطة أن هذه الصورايخ من الصغر بحيث يكون تأثيرها ضعيفاً إذا استخدمت المتفجرات العادية كرؤوس لها، ولابد إذن أن يكون هدفها الحقيقي أن تكون مسلحة برؤوس ذرية. وقد ثبت تاريخياً أن الألمان فشلوا رغم جهودهم في إنتاج القنبلة الذرية، وكان لهذا الفشل أسباب عديدة من بينها أن التنافس بين الوزارات المختلفة في ألمانيا لإنتاج القنبلة الذرية قد أعاق أيضاً التنسيق وأدى إلى تبديد الجهود، ومن بينها أيضاً خطأ علمي بسيط وإن كان قائلاً وقع فيه الألمان وأدى بهم إلى الاعتقاد أنه يستحيل استخدام الجرافيت كوسيط في مفاعل ذري يستخدم اليورانيوم الطبيعي، وأنه لا مفر من استخدام الماء الثقيل في مثل هذا المفاعل، وأدى هذا بالألمان إلى الاعتماد على المصنع النرويجي للماء الثقيل، هذا المصنع الذي دمرته طائرات الحلفاء أكثر من مرة ما أدى إلى تعطيل برنامج العمل. وفي هذا الجو المحموم وجد أوبنهايمر نفسه عام 1942م مطلوباً في مشروع القنبلة الذرية، وكان ثمة نتائج علمية تبشر بنجاح المشروع، من بينها العالم الإيطالي الجنسية فيرمي قد استطاع أن يبني في أمريكا مفاعلاً ذرياً يقوم على استخدام الجرافيت عام 1942م، ومن بينها أن بريطانيا قد عرضت أن تشارك أمريكا في كل معلوماتها عن هذا الموضوع. وعندما اجتمعا أول لجنة علمية من كبار العلماء لبحث المشروع تحت قيادة الجنرال ليزلي جروفز بدا واضحاً له منذ أول جلسة أن أوبنهايمر هو أفضل العلماء لقيادة المشروع من الناحية العلمية. فهو إلى جانب امتيازه العلمي قادر بشخصيته على أن يقود الآخرين، وهو رجل ذو كفاءات إدارية عديدة وهو محبوب من الناحية الشخصية من كثير من العلماء الأمريكيين والأوربيين. وهكذا بدأ (مشروع ماناهتن) تحت قيادة روبرت أوبنهايمر وبدأ أوبنهايمر يحاور نفسه وضميره حول مشروعية استخدام هذا السلاح الرهيب في الحرب. لقد كان أوبنهايمر واضحاً وحاسماً في ضرورة انتزاع السبق من ألمانيا النازية في إنتاج القنبلة حتى لا يفاجأ الحلفاء باستخدامها ضدهم، وكل المأساة هي أنه عندما تم إنتاج القنبلة بالفعل كانت القوات السوفيتية قد اجتاحت برلين، وكان هتلر قد انتحر، واستسلمت ألمانيا دون قيد أو شرط، ولم تبق إلا اليابان تقاوم مقاومة هزيلة بأمل الحصول على شروط أفضل للهزيمة. في منطق العسكريين ومنذ استسلمت ألمانيا النازية في مايو 1945م وانتهى إلى غير رجعة جو الفزع المحموم من أن تجد ألمانيا النازية طريقها إلى القنبلة، بدأ العلماء الأمريكيون وفي مقدمتهم أوبنهايمر يفكرون في النتائج الطويلة المدى المترتبة على وجود هذا السلاح الإستراتيجي الرهيب هل من الضروري استخدام هذا السلاح الآن؟ وإذا استخدم كيف؟ ثم ماذا سوف يحدث للبحوث الذرية ومعلوماتها بمجرد أن تنتهي الحرب؟ تلك عينة من الأسئلة التي بدأت تعذب الضمائر. ومن الواضح الآن أن أوبنهايمر بعد أن استسلمت ألمانيا لم يكن متحمساً لاستخدام هذا السلاح في اليابان. فقد كان تقديره الصائب أن استسلام اليابان مسألة وقت لا أكثر ولا أقل وكان يشاركه هذا الرأي عدد كبير من العلماء، وقد عبر غالبية هؤلاء العلماء عن هذه القناعة في الاستفتاء الذي اجرته الحكومة بينهم حول البدائل المقترحة في استخدام هذا السلاح ... وأول هذه البدائل كان استخدام السلاح في اليابان لإنهاء الحرب، وقد صوت بتأييد هذا الاقتراح 23 عالماً من بين 190، والبديل الثاني هو القيام بتجربة ميدانية في اليابان يتلوها عرض بالاستسلام قبل استخدام السلاح ... وقد صوت إلى جانب هذا الاقتراح 69 عالماً، والبديل الثالث هو القيام بالتجربة الميدانية في أمريكيا بحضور ممثلين لليابان يتلوها عرض بالاستسلام قبل استخدام السلاح، وقد أيد هذا الاقتراح 39 عالماً، وكان البديل الرابع هو عدم استخدام السلاح على أن تعلن أمريكا عن وجوده لديها، وقد صوت إلى جانب هذا الاقتراح 16 عالماً، ثم كان البديل الأخير هو عدم استخدام السلاح وعدم الإعلان عن وجوده وقد صوت إلى جانب هذا الاقتراح عالمان. لقد كان واضحاً من هذا الاستفتاء أن غالبية العلماء كانت تؤيد كحد أدنى عدم استخدامه فوراً، أو الإنذار باستخدامه مع عرض بالاستسلام ولكن العسكريين والسياسيين كان لهم منطق آخر! آنذاك كانت روسيا السوفيتية قد انتهت من حربها في الجهة الألمانية وبدأت قواتها في الشرق الأقصى التحرك ضد اليابان، ولذا كان العسكريون الأمريكيون حريصين على استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان فوراً حتى يجعلوا باستسلامها قبل أن تتقدم القوات السوفيتية في الشرق الأقصى ومع أن الكسندر ساكس المستشار الاقتصادي لروزفلت قد حاور رئيس الجمهورية في ديسمبر 1944م، حول ضرورة القيام ببروفة أمام كل العالم لهذا السلاح قبل استخدامه الفعلي، ومع أن روزفلت قد وافق على هذا الاقتراح، إلا أن وفاته المفاجئة وتولي ترومان رئاسة الجمهورية الأمريكية قد غيرا الموقف تغييراً كاملاً. فور استلام ترومان السلطة عين في أبريل 1945م لجنة معظمها من العسكريين لتقدم له النصيحة حول استخدام القنبلة الذرية، وكان من الطبيعي في لجنة من هذا النوع على رأسها وزير الحرب أن ترفض اقتراحات وضعت أمام لجنة بضرب غابة قريبة من طوكيو ليلاً كإنذار أولاً، أو إعطاء إنذار للأهالي بوقت كاف للجلاء عن المناطق التي سوف تضرب ... الخ. وقد صدر قرار اللجنة بالإجماع، ثم عاد أحد الأعضاء (بارد) وهو نائب وزير البحرية فأعلن معارضته للقرار، وأكد هذا بتقديم استقالته، وكانت وجهة نظره أن البحرية الأمريكية كفيلة بتركيع اليابان دون استخدام هذا السلاح وأن الجيش في أمريكا يريد استخدام هذا السلاح حتى ينسب لنفسه فضلاً في استسلام اليابان. لقد اختار ترومان أن يلقي قنابله الذرية على اليابان على الرغم من أنه كان واضحاً من المفاوضات السرية أن اليابان كانت مستعدة لاستسلام إذا لم يتمسك الحلفاء بإزاحة الإمبراطور من السلطة. وفي 6 أغسطس 1945م قامت الطائرة ب-29 تحمل الصبي الصغير كما سميت القنبلة الذرية الذي ألقي على هيروشيما في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحاً. وبعد ثلاثة أيام من هذا الحدث المروع ألقيت القنبلة الثانية على نجازاكي، ولم يكن قد مضى على دخول الاتحاد السوفيتي الحرب ضد اليابان أكثر من 24 ساعة. وقد دلت الإحصاءات اليابانية على أن ضحايا قنبلة نجازاكي هم 70 ألف قتيل، 130 ألف جريح من بينهم نحو 43 ألف جراحهم خطيرة. وقد أعلنت قيادة الحلفاء في 1946م أن ضحايا هيروشيما هم 78150 قتيلا، 13983 مفقودا، 9428 جراحهم خطيرة، 29997 جراحهم طفيفة. في المحكمة وإثر هذه المذابح الرهيبة انتهت الحرب واستسلمت اليابان، وبقي علماء أمريكا حيارى في مسئوليتهم عن كل ما حدث، وزاد من حيرتهم أن العالم الأمريكي تيللر قد اقترح استخدام الحرارة الهائلة الناتجة عن الانشطار في القنبلة الذرية لتفجير القنبلة الانصهارية التي عرفت فيما بعد بالقنبلة الهيدروجينية، ووقف أوبنهايمر ضد هذا الاقتراح على أنه شبه مستحيل فنياً، ثم وقف بعد ذلك ضده على أساس فكري وسياسي واضحين. كانت الحرب الباردة في عنفوانها، وكان الصراع المرير في داخل لجنة الطاقة الذرية الأمريكية على أشده حول موضوع بناء القنبلة الهيدروجينية، واختار أوبنهايمر رداً على هذا الوضع أن ينسحب من جميع المراكز الحساسة التي يشغلها وأن يتفرغ لعلمه كمدير لمعهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون. ولكن تيللر وأصدقاءه السياسيين رفضوا أن يتركوا أوبنهايمر سالماً في عزلته الجديدة، وهكذا بدأت الدراما السياسية الرهيبة التي سميت باسم مسألة أوبنهايمر. وفي ديسمبر 1953م استلم أوبنهايمر وهو في معمله بجامعة برنستون خطاباً من لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي يتضمن أربعة وعشرين اتهاماً له، وكانت خلاصة هذا الاتهامات أنه ليس صالحاً للعمل في لجنة الطاقة الذرية الأمريكية، وأنه قد تقرر بناء على ذلك سحب الترخيص الذي كان ممنوحاً له بالإطلاع على الوثائق السرية للجنة. وقد استمرت محاكمة أوبنهايمر ثلاثة أسابيع ونشرت وثائق هذا المحاكمة بعد ذلك في تقرير كبير بعنوان (حول مسألة روبرت أوبنهايمر) وأدانت اللجنة أبا القنبلة الذرية باعتباره خطراً على أمن الولاياتالمتحدة. إن كل الاتهامات التي وجهت إلى أوبنهايمر باستثناء الاتهام الأخير تتعلق باتصالاته قبل الحرب بعناصر ومتطلبات يسارية أمريكية ومع أنه لم ينكر هذه الاتصالات أبداً، ورغم أن جنرال ليزلي جروفر عندما اختاره للعمل معه خلال الحرب كان يعرف كل هذه الاتباطات السياسية، إلا أن اللجنة قد صممت على أن تحاكمه حول هذه الاتصالات وبأثر رجعي كما يقولون. أما الاتهام الرابع والعشرون فقد كان أخطر .. لأنه يتعلق بموقفه المعارض لإنتاج القنبلة الهيدروجينية. وحول هذا الاتهام كان العالم الأمريكي تيللر هو شاهد الإثبات الأول، وكان رئيس لجنة الطاقة الذرية هو شاهد الإثبات الثاني. وبطبيعة الحال كانت شهادة هذين الاثنين كافية لإدانة أوبنهايمر. ومع أن أوبنهايمر كان بالفعل معارضاً في إنتاج القنبلة الهيدروجينية على أسس سياسة واضحة ولأن ضميره كان يعذبه للدور الذي لعبه في قنابل اليابان، إلا أن موقفه خلال المحاكمة لم يكن، مع الأسف، بهذا الوضوح. لقد اختار أوبنهايمر أن يترد ويتذبذب في ردوده على أسئلة اللجنة ولم ينفعه هذا التردد كثيراً لأن اللجنة ادانته في نهاية الأمر. لقد فقد العالم الفيزيائي الكبير شجاعته في اللحظة التاريخية العاصمة، بدلاً من أن يدافع في جرأة عن رأيه السياسي بدت محاكمة أوبنهايمر وكأنها تكرار مأساوي لموقف جاليلو عندما حاكمته الكنيسة لإدعائه أن الأرض تدور. ولعل هذا الموفق غير الشجاع من أوبنهايمر هو الذي شفع له ذلك أيام حكومة كيندي، عندما قررت أن تمنحه أرفع جائزة علمية في أمريكا المعروفة باسم جائزة فيرمي. وعندما اغتيل كيندي قبل تسليمه الجائزة قام جونسون بهذه المهمة وقال له لقد كانت من أعز أمنيات كيندي أن يقوم شخصياً بتسليمك الجائزة والميدالية. وهكذا أسدل الستار على قصة عالم كبير اختار أن يقف موقفاً إنسانياً شجاعاً، ثم تردد عندما حانت اللحظة التاريخية الحاسمة...