لكل منّا حرفة قد تكون سبباً لسعادته أو شقائه وهناك من يختار مهنته أو حرفته.. وآخرون ترميهم الأقدار وتسوقهم إلى مهن وأعمال دون الرغبة أو الرضا عنها أو بها، ومع ذلك يبقى التسليم لقضاء الله وقدره، وكما يقول المثل القديم «كل حركة فيها بركة».. ومن هذا المنطلق نجد أن معظم الأشخاص يعتقدون بأن الحركة فيها بركة وذهب البعض إلى أبعد من ذلك حيث أمن بأن الحركة بها ألف بركة وليس واحدة، ونجد ذلك يتجسد جلياً في كثير من الأشخاص الذين رمت بهم الأقدار للعمل في«الجزارات» واستحمال روائح الدماء وغيرها في سبيل اقتناء لقمة العيش الكريمة ومع ذلك يصفهم البعض بالغش وإدخال العظام والشحم مع اللحم عند بيعها إلى المشترين، ولمعرفة الظالم من المظلوم قصدت جزارة في الحي كي أقضي بها بعض ساعات في العمل في هذه المهنة وأتعرف عن قرب على أسرارها والتي يعتبرها البعض من الأعمال الهامشية التي لا تحتاج إلى«قومة وقعدة» كي تتعلمها فيمكن لأي شخص أن يمسك سكيناً وفراراً ويجلس مع جزار لفترة بسيطة من الزمن ليصبح ملماً بهذه المهنة، وهذا عكس ما رأيت أنا في اليوم الذي قضيته بالجزارة فهذه المهنة تتطلب منك الإلمام الشديد بالسوق كي تتعرف على الأسعار وطلبات الزبائن المتعددة وكيفية التعامل معهم وصعوبة التعامل مع الفرار والسكين الأدوات الرئيسة للجزار والجهد الكبير الذي تبذله في سبيل تلبية طلبات الزبائن أو المشترين خصوصاً وأن هناك جزارات تجلب اللحوم بالكيلو من جزارات أكبر كي تبيعها للمواطنين داخل الأحياء السكنية وهناك أخرى تتجه إلى المذبح مباشرة كي توفر استهلاك زبائنها من اللحوم، وفي هذا اليوم الذي جلست فيه تعرّفت على عدد كبير من الزبائن منهم من يحمل «2» كيلو وأخر يحمل كيلو واحد وآخر نصف كيلو من اللحمة، مع الارتفاع الكبير الذي تشهدها أسعار اللحوم في هذه الفترة، وكان هناك بعض منهم يئن ويشكو من الارتفاع الجنوني للأسعار، وكلٌّ يطلب بحسب ما يسمح له به وضعه المادي، وقضيت في الجزارة يوماً شاقاً ومتعباً كدت فيه أصيب أُصبعي، عندما أردت تكسير لحمة لزبون يأتي باستمرار للمحل، وعندها فلت الفاس من يدي، فضحك الزبون قال لي: لسه عليك كثير حتى تتعلم وتجيد هذه المهنة، فرد صاحب الجزارة على المشتري ما أظنو بعد اليوم دا يجي تاني عشان يتعلم، وبعد قضاء ساعاتي معه وأنا أهم بالرحيل منه خاطبني قائلاً والله كان شفتا ليك شغلة تانية غير دي أحسن ليك دي ما شغلة بتاعة مستقبل. فرددت عليه أنا صحفي و لا أريدها للمستقبل وإنما أردت أن أتعرف عليها عن قرب، فقال لي هنا ما بتعرف كتير عن أسرار المهنة لكن أمشي لف وشوف في أسواق تانية فيها ببيعوا لحمة ب«نص ربع الكيلو» والكمونية بالمتر دي بتتعلم منها «وتتألم».